في الحادي والعشرين من فبراير الماضي أخبر رئيس الوزراء البريطاني "توني بلير" أعضاء البرلمان أن المملكة المتحدة ستقوم بتخفيض عدد قواتها العاملة في جنوب العراق من 7,100 إلى 5,500 جندي. وقال بلير إن عملية التخفيض هذه تأتي في أعقاب عملية "سندباد" التي تعاملت فيها القوات البريطانية والعراقية المشتركة مع نقاط المتمردين الساخنة، و"قدمت الإسناد لعمليات إعادة الإعمار الدائرة في تلك المنطقة". ومضى بلير للقول بأن "ذلك كله لا يعني أن البصرة قد أصبحت الآن على النحو الذي نريدها أن تكون عليه، ولكنه يعني أن الفصل التالي في تاريخ البصرة يمكن أن يُكتب بواسطة العراقيين". وعلى شاشة التلفزيون في الثامن عشر من إبريل الحالي شاهدت حفلاً مبسطاً وقع خلاله ميجور جنرال (لواء) بريطاني على وثيقة تسليم محافظة واحدة من المحافظات العراقية التسع عشرة وهي محافظة "ميسان" إلى العراقيين، وهو ما يعني أن الجيش البريطاني قد أصبح منذ تلك اللحظة مسؤولاً عن الإشراف المباشر عن محافظة البصرة فقط. خلال السنوات الأربع الماضية، كانت هناك هوة واسعة بين ما كانت وزارة الدفاع البريطانية تريد من البريطانيين أن يصدقوه عما يحدث في جنوب العراق، وما كان يحدث هناك بالفعل. وإذا ما اتصل أحدكم برقم هاتف المكتب الصحفي لوزارة الدفاع في "وايت هول"، فسيسمع من يقول له: "نعم لا تزال هناك مشكلات يتعين التغلب عليها. ولكن جنودنا يؤدون بشكل جيد في جنوب العراق كما أننا نعمل بجد من أجل تحسين مستوى الجيش العراقي والشرطة المحلية، ومن المأمول أن نتمكن من إعادة مزيد من أفراد قواتنا إلى الوطن في الوقت الملائم، وذلك بعد تحقيق مزيد من التحسن في الأوضاع هناك". ومنذ عام تقريباً أوردت صحيفة "التايمز" تعليقاً لافتاً على لسان من وصفته بأنه "ضابط بريطاني كبير" ألمح فيه إلى أن الحكومة البريطانية تُنكر الورطة التي تجد القوات البريطانية نفسها فيها في العراق قائلاً: "إن الوضع هناك كارثي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وهو يذكرني بما واجهناه في فلسطين عام 1946 حيث تحولت القوات البريطانية وقتها إلى قوات كل ما تطمح إليه هو حماية نفسها... وكل البرقيات الصادرة من بغداد تدل على أننا نواجه هناك وضعاً مماثلاً لذلك، وهو أمر يبعث على الاكتئاب في الحقيقة". يذكر أن البريجادير (عميد) "باتريك ماريوت"، قائد اللواء السابع المدرع، قد أدلى بتصريح للصحف البريطانية، قال فيه إن 60 في المئة من إجمالي قوة اللواء الذي يقوده تستخدم لحماية الوحدات التابعة للواء، ومرافقة سياراته العسكرية عند خروجها في مهامها، بالإضافة إلى القيام بواجبات حراسة لا نهاية لها. وهذا التصريح أعطى في وقته صورة مثيرة للاهتمام عن حقائق الأمن الداخلي في تلك المنطقة وخصوصاً في الجزء الذي قال فيه ذلك الضابط "إن العناصر العراقية المنشقة ستواصل مهاجمتنا إلى أن نرحل عن البلاد". والحقيقة أن هذا هو ما كان يحدث بالفعل ويكفي للتدليل على صحته أن نعرف أن القواعد البريطانية في تلك المنطقة كانت تتعرض في الآونة الأخيرة لهجمات شبه يومية. منذ أن تسلمت القوات البريطانية المسؤولية عن محافظات ميسان والبصرة والمثنى وذي قار عام 2003، لم تنجح -رغم أنها قد بذلت قصارى جهدها وقامت بالدور المنوط بها بدرجة عالية من الاحترافية- في منع الأحزاب والجماعات الشيعية من إسباغ رعايتها على مليشياتها المدججة بالسلاح، والمفتقرة إلى الانضباط، والتي تمكنت من السيطرة على بعض وحدات الشرطة التي دربتها القوات البريطانية. وكان المشهد اليومي المعتاد هو مشهد ضباط الشرطة الفاسدين وفرق الموت التي كانت تطوف المدن والقرى في جنوب العراق في سيارات تويوتا مفتوحة ناشرةً الخوف والرعب. وقد حالت كل تلك الظروف دون حصول القوات البريطانية على المساعدات البشرية التي كانت تحتاجها لتسيير الأمور في تلك المحافظات، وهو الأمر الذي فاقم من حدته أن عدداً كبيراً من الذين عملوا مع البريطانيين قد تعرضوا للقتل بواسطة فرق الموت. يشار إلى أن "جيمس هايدر" مراسل "التايمز" في العراق قد حضر مراسم تسليم المسؤولية في محافظة ميسان وقدم وصفاً عن ذلك في عدد الصحيفة الصادر في التاسع عشر من الشهر الحالي حينما كتب يقول: "كان الاحتفال شكلياً إلى حد كبير لأن القوات البريطانية كانت قد أوقفت كل نشاط لها تقريباً باستثناء الدوريات في تلك المحافظة المكونة من عشائر من عرب الأهوار الذين يعيشون على جانبي الحدود مع إيران ويعملون في مجال تهريب الأسلحة، والممنوعات والبشر". ومن المفترض أن تستمر القوات البريطانية في محاولاتها لبسط السيطرة على منطقة الحدود العراقية- الإيرانية في الجنوب، على الرغم من الخسائر التي تتعرض لها في سياق ذلك والتي كان آخرها مصرع اثنين من جنودها أثناء قيامهم بدورية على الحدود. وتدعي وزارة الخارجية أن إيران تقوم بتهريب ألغام أرضية متطورة وقذائف خارقة للدروع لديها القدرة على تدمير الآليات العسكرية البريطانية. وتتركز القوات البريطانية في الوقت الراهن في معسكر يقع قرب مطار البصرة. وفي الحقيقة أن عدد القوات البريطانية الموجود في البصرة والبالغ 5500 جندي لن يتمكن من إنجاز الكثير من المهام الأمنية في تلك المحافظة التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، وذلك بسبب تفاقم المشاعر العدائية ضد القوات البريطانية، وزيادة النفوذ الإيراني في المحافظة. وحول ذلك كتب "جيمس هايدر" قائلاً إن تلك المدينة "تزداد عنفاً يوماً بعد يوم، حيث تقوم المليشيات العاملة فيها بشن حرب من أجل السيطرة على تجارة تهريب النفط، والسيطرة على المؤسسات الحكومية الرئيسية مع وجود محافظ غير محبوب وانقسام للضباط الكبار بين الفصائل المتنافسة، وفي كثير من الأحيان تتحول المنافسة داخل المؤسسات الحكومية إلى قتال شوارع مفتوح". لقد كان توني بلير على حق عندما قال إن البصرة ليست كما نريد لها أن تكون "فرجال الدين المدعومون من إيران يفرضون تقاليد صارمة وآراء محافظة على السكان المحليين، في نفس الوقت الذي تحاول قوات التحالف فيه فرض الديمقراطية". والحقيقة أنه كثيراً ما راودني السؤال: هل يمكن تنظيم انتخابات حرة في البصرة في الظروف الراهنة بعد أن وصل عدد القتلى من البريطانيين منذ عام 2003 إلى 109 جنود؟ والإجابة التي تخطر على بالي هي أن مستقبل المدينة -إذا ما خرجت منها القوات البريطانية- يبدو قاتماً إلى أقصى درجات القتامة.