حين تناولنا، في الأسبوع الماضي، موضوع الثقافة والمؤسسات الثقافية، لم يكن الهدف هو تناول اتحاد الكتاب أو سواه من المؤسسات، كما لم يكن المقصود تناول الكتابة والكتاب أو الأدب والأدباء، فهذه ليست سوى جزئيات في الثقافة وفي العملية الثقافية، حيث إن الثقافة عملية أوسع وأعمق بكثير من العملية الأدبية والفكرية والإبداعية المتمثلة في أمسية شعرية هنا وندوة قصصية هناك. بل كان ذلك تمهيداً لتناول حال الثقافة الجادة وانحسارها، والحصار الذي تتعرض له من عدة جهات، وخصوصاً من قبل الثقافات السائدة في وسائل الاتصال الحديثة والتكنولوجيا العالية، من جهة، وثقافة التخلف الماضوي والأصولي من جهة ثانية. المسألة، في معالجتنا هذه، تتعلق بهوية الثقافة العربية اليوم، وبالثقافة التي تدعم الهوية العربية وتعززها، وسط الهجمة الخطيرة التي تتعرض لها ثقافتنا وهويتنا، وهي هجمة تسهم فيها مؤسسات ثقافية وإعلامية عالمية، ومنها ما هو عربي، سواء تعلق الأمر بالفضائيات أو بمواقع الإنترنت العربية. هذه المسألة تجعل موضوع الهوية الثقافية بؤرة للحوار بين الفاعلين في الثقافة العربية عموماً، وعلى المستوى المحلي بشكل خاص. فنحن هنا، في دولة الإمارات وفي منطقة الخليج أيضاً، نتعرض لهجمة قد تكون الأشرس في مجال الهوية، حيث تختلط الثقافات واللغات والأعراق والجنسيات، بما يهدد هذه الهوية بالتشويه والشرخ والتمزق. الأمر الذي يطرح السؤال حول كيفية المواءمة بين استخدام أدوات التقدم وبين التطوير العقلاني للهوية، ضمن معطيات ترفض الضياع بين التيارين السائدين: العولمة أو الأصولية. نرفض التيارين، ونطرح البديل المتمثل في الجمع بين كل ما يصلح لأمتنا وهويتنا وثقافتنا، فنحن ضد هيمنة أي من التيارين، لأن كلاً منهما يدعي امتلاك الحق والحقيقة، في حين أن التجربة تثبت خطورتهما وضرورة مواجهتهما بالتيار الثالث البديل، تيار العقلانية العربية القائم على أسس حضارية متينة، تنطلق من مكونات الحضارة العربية الإسلامية ومنطلقاتها الأولى، وتتخذ من العلم والتحديث أساساً آخر من أسس بنائها. وهذه هي الأسس التي قامت عليها نهضة الشعوب في القرن العشرين ومطالع القرن الحادي والعشرين، كما هو حال النهضة اليابانية مثلاً.. أو في الهند والصين كذلك، أو حتى في دول آسيا كحد أدنى. والسؤال هنا يعود بنا إلى أسئلة بدايات النهوض العربي: لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون (والعرب طبعاً)؟ أو سؤال: كيف نلحق بالغرب الذي كان سؤال الطهطاوي وغيره من كبار المثقفين العرب؟ أو سؤال طبائع الاستبداد، وسواه من أسئلة النهوض. هذه الأسئلة التي تظل تتجدد في صياغات تعيد التأكيد على الأولويات في حياتنا الثقافية، بكل ما تنطوي عليه الثقافة من أبعاد، وذلك في ضوء ما تمتلك بلادنا وشعوبنا من طاقات وما تختزن من إمكانيات تؤهلها لعطاءات كبيرة، إذا ما توفرت الإرادة. لقد تمكنت الدول الخليجية، وعلى رأسها دولتنا، من تحقيق ما يشبه المعجزات في الانتقال من نمط حياة قديم إلى أنماط من (الحداثة)، وخصوصاً على المستوى الاقتصادي، لكن المتأمل في هذه الأنماط (الحداثية) يكتشف أنها حداثة القشرة والسطح، وليست حداثة في العمق. فرغم كل القفزات التي تحققت على المستوى الاقتصادي، إلا أنها لم تترافق بتطورات من المستوى نفسه في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية، حيث ظلت هذه الحقول لا تتناسب مع عمليات النمو التي شهدها القطاع الاقتصادي. وفي السياق نفسه، ننظر إلى جانب مهم في حياتنا، هو الجانب المتعلق باستخدامات التقنية، فنرى أن دولة الإمارات من الدول الأكثر استخداماً لهذه التقنيات، وفي مجالات كثيرة، لكن المتابع لهذا الشأن يستطيع أن يميز بين نمطين من استخدام التكنولوجيا، الأول يقوم على الاستخدام الاستهلاكي غير المنتج، وهذا هو النمط الشائع في مجتمعنا، وفي مجتمعاتنا العربية عموماً، حيث نغدو في هذا الإطار أسرى لها لا نستطيع التحكم بها. بينما يكاد ينعدم النمط الثاني والمتمثل في الاستخدام الإبداعي للتكنولوجيا، وهو الاستخدام الذي يجعلها في خدمتنا ولسنا نحن في خدمتها. هذه الظاهرة الخطيرة، وهي ظاهرة تتكرر في الكثير من مجالات حياتنا، ناتجة عن عوامل الضعف التي تعاني منها مجتمعاتنا على غير صعيد، ولذلك فالتباهي بأننا الدولة الأكثر استخداماً للتقنيات لا يمنحنا الامتياز على الآخرين إلا إذا كنا قادرين على توظيف هذه التقنيات في عمليات إنتاجية مثمرة. * رئيسة رواق عوشة بنت حسين الثقافي- دبي