المقارنة بين مصر وموريتانيا غير جائزة منهجياً ونظرياً ولا جدوى منها عملياً. ولذلك يحيد من يقارنون بين البلدين من حيث مستوى التطور الديمقراطي عن جادة الصواب. فاختلاف الظروف يتجاوز المدى المقبول عند إجراء مقارنة موضوعية منضبطة منهجياً. فلهذه المقارنة مقومات لابد من توفرها كي نستطيع استخلاص نتائج محددة منها، وفي مقدمتها أن يكون هناك حد أدنى من المشتركات ذات الصلة بالقضية موضوع المقارنة. ولا يتوفر ذلك على نحو يتيح مقارنة منضبطة بين الأوضاع الداخلية في كل من مصر وموريتانيا اليوم لأسباب تتعلق بالتكوين المجتمعي وسياق التطور الاقتصادي- الاجتماعي، وأخرى تعود إلى أنماط العلاقات بين القوى السياسية ذات النفوذ والجماعات الاجتماعية ذات التأثير، وموقع المؤسسة العسكرية في النظام السياسي- الاجتماعي. ولهذه المحددات التي تتباين فيها ظروف البلدين تاريخ مختلف كثيراً في كل منهما. ولذلك يصعب تقويم الوضع الراهن فيهما بناء على مقارنة بينهما تقود إلى أن موريتانيا التي احتفلت الخميس الماضي بنقل السلطة إلى الرئيس المدني المنتخب، حققت مستوى أفضل من مصر على صعيد التطور الديمقراطي. فقد لجأ بعض من لم ترضهم التعديلات الدستورية التي أجريت في مصر إلى هذه المقارنة للتعبير عن إحباطهم مما جاءت به من قيود إضافية، بدلاً من أن تزيل قيوداً كانت قائمة، ومازالت. غير أن الإحباط لا يكفي لتوفير المقومات الضرورية لسلامة أي مقارنة بين الحالتين. فالهدف من المقارنة، هنا، هو كشف سلبيات إحدى هاتين الحالتين عبر إبراز إيجابيات الأخرى. ولا حاجة إلى ذلك، موضوعياً، لأن سلبيات الحالة المصرية واضحة بما يكفي. ولا تزيدها مثل هذه المقارنة وضوحاً، خصوصاً حين لا تكون الحالة المقارن بها نموذجاً يقتدى به. فلا يصح أن يكون الانقلاب العسكري هو الطريق المعتمد إلى الإصلاح الديمقراطي، ناهيك عن أن يصبح نموذجاً عربياً عاماً. وهذا فضلاً عن أننا لا نعرف، بعد، مآل تجربة نقل السلطة إلى المدنيين عبر انتخابات حرة في موريتانيا. فالسابقة الوحيدة على الصعيد العربي (السودان) لا تصلح نموذجاً إذ استولى عسكريون على السلطة مجدداً عام 1989 بعد ثلاث سنوات على تسليمها إلى المدنيين في سيناريو يشبه كثيراً ما حدث في موريتانيا خلال الأيام الماضية. وإذا كانت الحالة الموريتانية الراهنة لا تصلح نموذجاً، وهي كذلك بالفعل، فقد أخفقت مصر في أن تكون هي النموذج الذي يؤهلها تاريخها له أكثر من أي بلد عربي آخر، ليس لأنها الأفضل بأي حال، ولكن لأنها الأسبق إلى الانتخابات والمشاركة والبرلمان والأحزاب. وهناك حاجة بالفعل إلى نموذج عربي للتحول الديمقراطي يقوم على حوار بين نظام الحكم والمعارضة بأطيافها المختلفة وغيرهما من الفاعليات الاجتماعية والثقافية سعياً إلى توافق عام على طبيعة الدولة الديمقراطية المبتغاة ومقوماتها، وعلى آليات التحول ومداه الأمني وكيفية ضمان تواصل هذا التحول. وكان تعديل الدستور في مصر فرصة تاريخية للتقدم في هذا الاتجاه. ولكن الطريقة التي أجري بها هذا التعديل واتجاهه ومضمونه جعلها فرصة أخرى ضائعة. فقد فرض الصدام بين الدولة وجماعة "الإخوان المسلمين" نفسه على هذا التعديل الذي استهدف، في اتجاهه الرئيسي، وضع حد لتحدد هذه الجماعة انتخابياً وزحفها إلى مختلف المجالس المنتخبة، بعد أن حصدت نحو 20 في المئة من مقاعد مجلس الشعب في انتخابات 2005. وحين يكون هذا هو الاتجاه الرئيسي، لابد أن يخلق التعديل الدستوري اختلالات جديدة في الحياة السياسية، بدلاً من أن يصلح الاختلالات القديمة. فقد حظر هذا التعديل ممارسة أي نشاط سياسي على أساس ديني بهدف تقييد حركة مرشحي "الإخوان" في أي انتخابات قادمة، بدءاً بانتخابات مجلس الشورى التي ستجري في يونيو المقبل. وسيجري خلال أيام تعديل في القانون الذي ينظم عملية الانتخاب بشكل عام لتضمينه نصاً على تشكيل لجنة عليا للإشراف على الانتخابات ستكون إحدى مهماتها الرئيسية إلزام مرشحي "الإخوان" بعدم استغلال الدين في دعايتهم الانتخابية. والأرجح أن يكون دور هذه اللجنة عبئاً إضافياً على حياة سياسية تعاني الكثير من الاختلالات، ومن دون أن تحقق بالضرورة هدفها في محاصرة مرشحي "الإخوان". فقد تضخم دور الإسلام السياسي في مصر لأسباب من أهمها القيود التي فرضت على أحزاب المعارضة المشروعة، وضعف أداء نظام الحكم وحزبه، فضلاً عن نجاح "الإخوان" في الوصول إلى قطاعات متزايدة من الرأي العام عبر عمل اجتماعي منظم بنوه على أنقاض دور الدولة الآخذة في الانسحاب من ميدان الرعاية الاجتماعية. ولذلك قد لا يؤدي التقييد الإضافي للحياة السياسية سوى إلى مزيد من تضخم دور "الإخوان" البارعين في استغلال أي قيود تفرض عليهم لاستدرار تعاطف أوسع معهم. وقد حدث ذلك بشكل متكرر منذ نحو ستين عاماً حين قررت حكومة النقراشي عام 1948 حل جماعتهم وحظر نشاطها. غير أن الإصرار على مواصلة الاعتماد على الإجراءات القانونية والضربات الأمنية في الواجهة ضدهم لا يعني بالضرورة عجزاً عن قراءة تاريخهم من هذه الزاوية، وإنما قد يكون فيه اهتمام أكثر بقراءة واقعهم. فهذا الواقع يشي بأن المكاسب التي يحصدونها من جراء تقييدهم لا تمثل تهديداً آنياً أو فورياً لنظام الحكم. فالمكاسب التي تحصل عليها أي جماعة معارضة لا تؤدي تلقائياً إلى تغيير ميزان القوى لمصلحتها أياً يكن حجم خسائر الحكومة. وكم من نظم سياسية استعصى التغيير فيها بالرغم من أن أخطاء الحكم التي أضعفت شعبيته لمصلحة معارضة عاجزة عن تقديم بديل معقول ومنطقي وممكن. والمفارقة في الساحة السياسية المصرية اليوم هي أن المعارضة التي يمكن أن تصلح نظرياً كبديل من هذا النوع ضعيفة فعلياً، بينما المعارضة غير المؤهلة لأن تكون بديلاً هي الأقوى والأكبر حجماً والأكثر استفادة من أخطاء السياسات المتبعة. فالمعارضة التي تعاني ضعفاً في عقلها السياسي وتفتقد برنامجاً واضحاً وتثير مخاوف باقي القوى المعارضة وتخلق قلقاً لدى بعض فئات المجتمع، لا يمكن أن تمثل بديلاً عملياً حتى إذا كانت هي الأقوى. وهذا هو حال "الإخوان المسلمين" في مصر اليوم. فهم غير مؤهلين للسحب من رصيد مكاسبهم السياسية والاجتماعية، على نحو يجعله رصيداً عاطلاً أو "حساباً خاملاً" بلغة المعاملات المصرفية، وهذا يفسر لماذا لم يحسن من إجراء التعديل الدستوري في مصر تداعيات منهجهم التعقيدي الذي قد يؤدي إلى تعاطف أكثر مع "الإخوان"، وبالتالي مكاسب جديدة لهم. فالأولوية القصوى لدى أصحاب هذا المنهج هي حرمان "الإخوان" من الاستحواذ على مساحات جديدة في المجالس المنتخبة خلال السنوات القليلة المقبلة، حتى إذا كان ثمن ذلك هو ازدياد التعاطف الشعبي معهم. فهذا التعاطف المتزايد لا يزعج أنصار فرض مزيد من القيود طالما أن نتائجه الفعلية في الصراع على السلطة مؤجلة إلى أجل غير مسمى. فالمهم، عندهم، هو وضع حد لخطر "الإخوان" اليوم بغض النظر عما يمكن أن يحدث في الغد. وهذا هدف يمكن تحقيقه، ولكن بتكلفة عالية تتجاوز حالة الحياة السياسية وتفاعلاتها الداخلية إلى دور مصر الإقليمي الذي يتوقف تفضيله على تقديم نموذج عربي للتحول الديمقراطي.