في كل يوم بل كل ساعة، يزداد الحال سوءاً في العراق، لدرجة أصبح فيها توقع انهيار العراق كبلدٍ وتشظيه وتشرذمه، أمراً يتوقعه كثير من المراقبين والمتابعين الجادين. فإلى جانب أنباء وصور الانفجاريات اليومية التي بلغت الأسبوع الماضي قمتها حتى الآن وخلفت وراءها عشرات القتلى -بل مئات القتلى والجرحى- فإن قضية أخرى ملحة وعاجلة بدأت تظهر وقائعها المؤلمة على السطح. الأربعاء الماضي انعقدت في جنيف لجنة الأمم المتحدة الخاصة باللاجئين (المفوضية العليا لشؤون اللاجئين)، ومن اجتماع الأربعاء خرجت أرقام ووقائع مذهلة حول حالة وأحوال اللاجئين والمشردين العراقيين منذ بدء الغزو الأميركي واحتلال العراق عام 2003. يقول تقرير للأمم المتحدة بُحث في الاجتماع المشار إليه إن قرابة مليوني عراقي (تحديداً مليون وتسعمائة ألف) قد أجبِرُوا على ترك قراهم ومدنهم ومنازلهم وأصبحوا لاجئين داخل وطنهم! وإن مليونين آخرين فروا إلى سوريا والأردن (حيث استقبلوا برحابة من السوريين والأردنيين رغم أن المجتمع الدولي لم يقدم للبلدين أي عون أو مساعدة، ولكن سوريا والأردن لا تستطيعان تحمل المزيد من اللاجئين أو الفارين من العراق إليهما بعد ذلك)، وإن الولايات المتحدة -التي خلقت وتسببت في هذه الحالة المأساوية- استقبلت هذا العام سبعة آلاف عراقي فقط، بينما هنالك خمسون ألف عراقي يفرون كل شهر طالبين الحماية والأمان ولا يجدون من يهتم بأمرهم! وتكتمل قتامة الصورة ومأساويتها في تقرير آخر صدر عن منظمة الصحة العالمية يوم الخميس الماضي حول الحالة الصحية في العراق، حمل أيضاً أرقاماً ووقائع مذهلة عن أوضاع الأطفال العراقيين والجرحى الذين يتوفى 70% منهم في المستشفيات لعدم توفر المعدات الطبية والأدوية، ناهيك عن أحوال سوء التغذية. ولو استرسل المرء في متابعة الأرقام الواردة في التقرير لاحتاج الأمر إلى حيز أكبر من هذا كثيراً. هذه الصفحة الجديدة- القديمة التي كشفت عنها تقارير دولية موثقة، عندما توضع إلى جانب الصورة السياسية والأمنية لما يجري في العراق الآن، وآخرها ذلك الجدار العازل الذي أقامته القوات الأميركية ليفصل بين "الإخوة- الأعداء" المتقاتلين من سُنة وشيعة في حي عراقي واحد، كجزء من الخطة الأمنية الأميركية، مع العجز المخزي للسلطة العراقية الحاكمة تحت ظل الاحتلال وحمايته التي ثبت فشلها في توفير الحماية حتى داخل البرلمان العراقي، تجعل السؤال الذي تصدّر هذا المقال مشروعاً بل يجب أن تجعله هماً يومياً ليس للعراقيين وحدهم ولكن لكل العرب. ففي أخبار الأسبوع الماضي أيضاً أن وزير الدفاع الأميركي "روبرت جيتس"، في جولته العربية الأخيرة (حذر المسؤولين العرب من عواقب انهيار الدولة العراقية وآثاره الخطيرة والوخيمة على دول الإقليم جميعها). والولايات المتحدة التي "تحذر" من آثار وعواقب انهيار الدولة العراقية على الإقليم كله، تريد من الدول العربية والإسلامية أن تتحمل مسؤولية أوضاع العراق التي تنبئ بالانهيار، بتكوين قوات حفظ سلام عربية- إسلامية تحل محل قواتها عند انسحابها من العراق الذي -طال الزمن أم قصر- هو أمر سيصبح واقعاً بحكم التاريخ! الإدارة الأميركية أدخلت العراق في تجربة أليمة ومريرة تحت دعاوى وأوهام روَّج لها "اليمين" الأميركي المتعصّب، المتحكم في مفاصل الإدارة الأميركية اليوم. وكل الدعاوى والحكايات الخيالية التي كانوا يشيعونها، والأحلام الوردية عن إقامة عراق جديد يكون نموذجاً للدولة الديمقراطية على النسق الأميركي، وتشع منه أنوار الديمقراطية والتقدم على المنطقة كلها، كل هذه الأحلام والأوهام والدعاوى الفارغة من كل معنى، قد انهارت وتكشفت الحقيقة التي لا يريد الأميركيون أن يعترفوا بها، وأصبحت القضية الآن، وباعترافاتهم، هي قضية انهيار الدولة العراقية. وفي كل هذا التخبط ترفض الإدارة الأميركية الاعتراف بأن مشكلتها في العراق ومشكلة العراق معها أن الشعب العراقي -الشعب وليس زمر الحكام وقادة الميليشيات- لا يريد -ولم يرد أصلاً- أن يرى بلده محتلاً ووطنه ممزقاً وحياة أطفاله مهددة بالفناء. فالشعب العراقي كان في طليعة شعوب هذه الأمة العظيمة علماً وثقافة وإيماناً بالوحدة والحرية، وسنوات القهر الطويلة التي ذاق مرارتها قبل الاحتلال وسنوات الإذلال الرهيبة التي يعيشها الآن تحت رحمة الاحتلال والعصابات المسلحة لم تقهر ولم تقضِ على روحه العربية كما يروج المرجفون. العراق إلى أين؟ سؤال يحدد الإجابة عليه العراقيون الشرفاء -وهم الأكثرية في كل الطوائف وكل العشائر- إذا توحدت إرادتهم وقرروا أن يقدموا العراق الوطن ومصلحته على كل المصالح، وأن يستعيدوا عقولهم الراشدة وتاريخهم المجيد.