اختار الحزب الحاكم التركي يوم الثلاثاء الماضي مرشحاً لتقلد منصب الرئاسة ينحدر من جذور إسلامية، وهي الخطوة التي يرى المراقبون أنه من شأنها ترسيخ حضور الحزب، إلى جانب الطبقة الصاعدة من المسلمين المتدينين التي يمثلها، في قلب إحدى أهم المؤسسات العلمانية في السياسة التركية. وقد جاء هذا الاختيار ليغذي مخاوف الأتراك العلمانيين الذين يخشون من تغير أنماط حياتهم وتهديد المساواة الجنسية وحرية شرب الكحول، فضلاً عن ارتداء النساء للسترات القصيرة. والحديث هنا هو عن "عبد الله غول"، وزير الخارجية الحالي الذي ترتدي زوجته الحجاب والحليف المقرب من رئيس الوزراء "رجب طيب أردوجان"، حيث من المتوقع أن ينصبه البرلمان كرئيس بعد جولات من الاقتراع ستبدأ يوم الجمعة المقبل. وإذا ما تم تأكيد "عبد الله جول" كرئيس لتركيا، فإن ذلك سيعزز طبقة سياسية من المجددين ذوي الخلفية الإسلامية. "علي بولاك"، معلق في أحد الصحف المحافظة بأسطنبول يقول بشأن صعود الإسلاميين "إنهم القوة الجديدة، والمحرك الاجتماعي الصاعد"، مضيفاً "إنهم متدينون، فهم لا يشربون الخمر، ولا يلعبون القمار، كما أنهم لا يأخذون العطل، بل يختزنون طاقة كبيرة كانت تكبحها الدولة". ورغم أن تركيا تعتبر دولة مسلمة، فإن دولتها الحديثة التي أقامها "مصطفى كمال أتاتورك" عام 1923 تتمسك بالعلمانية، حيث تظل مؤسسة الرئاسة إحدى أهم مناصب الدولة التركية. ويستعد الرئيس العلماني الحالي "أحمد نجدت سيزار" الذي ينحدر من خلفية قضائية لمغادرة منصبه بعد انقضاء فترته الرئاسية. وفي خطاب ألقاه وزير الخارجية "عبد الله جول" ومرشح الرئاسة الذي يجيد اللغة الإنجليزية وأحد الوجوه التركية البارزة على الساحة الدولية مهدئاً من مخاوف العلمانيين قال "إن اختلافنا هو ثراء لتركيا". ويذكر أن ترشح "عبد الله جول" جاء كتنازل أقدم عليه رئيس الوزراء "طيب رجب أردوجان" الذي وقف العلمانيون ضده بشدة، فاضطر إلى صرف النظر عن ترشيح نفسه في مقابل تأييد وزير خارجيته. بيد أن هذا التنازل من قبل حزب العدالة والتنمية لن يمنع الحزب من تولي المناصب الكبرى في البلاد وهي رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء، فضلاً عن رئاسة البرلمان، وهو التسلسل الذي انتقده بشده "دينيز بيكال"، زعيم الحزب المعارض الذي أعلن أن حزبه سيقاطع الاقتراع. وفي منطقة الشرق الأوسط حيث ألحقت عملية الخلط بين الدين والحكومة أضراراً بعملية التحديث التي تتوق إليها المجتمعات يقف النموذج التركي بتوليفته المتناسقة بين الدين والحكم كحالة نادرة، بل وفريدة من نوعها في المنطقة. وفي هذا السياق يقول "يوست لاجنديش"، عضو البرلمان الأوروبي الذي يرأس لجنة القضايا التركية "لقد استطاع هذا الحزب تحديث تركيا أكثر مما قامت به الأحزاب العلمانية في السنوات الماضية، فقد أظهروا استعداهم لفتح النظام، ورفع التحدي أمام النخبة القائمة". ويُشار إلى أن الحزب الذي ساهم "جول" في تأسيسه ويعرف باسم "العدالة والتنمية" استند إلى الحركات السياسية الإسلامية التي ظهرت في التسعينيات. لكن الحزب الذي اعتمد على أجندة إسلامية بحتة أصبح أكثر اعتدالاً بعد وصوله إلى السلطة إثر الانتخابات التشريعية لعام 2002. ومنذ ذلك الحين حرص الحزب على تطبيق سياسات براجماتية ساهمت في خلق انتعاش اقتصادي وقادت الدولة إلى الانفتاح على نحو لم تتصوره حتى النخب العلمانية التي كانت تعتمد في السابق على الدولة، وذلك سعياً من الحزب إلى تأهيل تركيا وتسريع انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. ورغم تشديد الحزب على تمسكه بمسألة فصل الدين عن السياسة، فإنه يعتمد بشكل كلي على الطبقة التركية المحافظة المنتشرة في مناطق عديدة. فبعدما كانت هذه الشريحة المهمة من الشعب التركي على الهامش شرعت اليوم في الصعود إلى الواجهة كطبقة وسطى قوية مستفيدة من الانتعاش الاقتصادي الذي شهدته البلاد في السنوات الأخيرة. فقد تضاعف حجم الاقتصاد التركي خلال الأربع سنوات الأخيرة التي تولى فيها حزب "العدالة والتنمية" السلطة إلى أربع مرات، بسبب تقيد تركيا بالبرنامج الاقتصادي لصندوق النقد الدولي. ويرجع هذا السجال بشأن ترشيح "جول" لمنصب الرئيس ودور الدين في السياسة إلى المكانة الرمزية التي يحتلها منصب الرئيس في تركيا والسلطات الفعلية التي يتمتع بها الرئيس باعتباره القائد الأعلى للجيش، ويملك حق "الفيتو". هذا وأوضح القادة العسكريون في السابق أنهم لن يطأوا القصر الرئاسي إذا دخلته امرأة ترتدي الحجاب. ويحذر بعض المراقبين من أن يتدخل الجيش في حال اتضح وجود أي تهديد قد يمس بالعلمانية في تركيا. ويعضد هذا الطرح ما قاله "محمد كيسلالي"، المعلق في صحيفة "راديكال" قائلاً "علينا ألا نقلل من شأن الجيش، حيث الآلاف من الضباط يراقبون التطورات". لكن التطبيق الوحيد للإسلام من قبل "حزب العدالة والتنمية"، الذي يمكن رصده يقتصر على الخدمات الاجتماعية التي تستهدف القاعدة على غرار ما يقوم به الشيعة المسلمون في لبنان، أو ما تقوم به "حماس" في غزة، حيث تدق النساء على البيوت مقدمات الدعم للفقراء، بالإضافة إلى إقامة مراكز محاربة الأمية، أو المراكز الرياضية التي تمنح العلاج مجاناً للأطفال المعوقين. وبمنأى عن مسألة التدين التي تقلق البعض استطاع "حزب العدالة والتنمية"، تحقيق ازدهار اقتصادي وشجع على نشر ثقافة المبادرة الاقتصادية. "مصطفى كرادومان"، مصمم أزياء يعتبر أحد المستفيدين من الثقافة الاقتصادية الجديدة التي ساهم الحزب في تكريسها بعدما استطاع تحويل دار الأزياء المتواضعة التي كان يملكها إلى إمبراطورية حقيقية تصدر الزي الإسلامي إلى جميع دول منطقة الشرق الأوسط. صابرينا تافرنيس ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مراسلة "نيويورك تايمز" في تركيا ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"