طبيعي جداً عند إطلاق وإعلان أي قانون جديد أو نظام مستحدث أو لائحة مختلفة، وعند الإعلان عن أي تغيير، من الطبيعي جداً أن يكون هناك مؤيدون وهناك معارضون. وطبيعي أيضاً أن يكون هناك نقص أو قصور في هذا القانون أو ذاك النظام أو ذلك القرار، فأي عمل بشري ميزته الأساسية أنه غير كامل، ووضعه الطبيعي أنه يتطور ويتحسن مع الوقت. ورغم وجود مباركين وآخرين متحفظين على جدول الرواتب الجديد لموظفي حكومة أبوظبي، فإنه من الواضح أن إيجابيات هذه الخطوة أكثر بكثير من سلبياتها التي يمكن تلافيها مع الوقت. ومن أكثر النقاط إيجابية في النظام الجديد أنه يعزز الشفافية ويساعد على العمل بشكل سليم، كما أنه سيؤدي إلى وقف الهدر المالي الذي كان يحدث في بعض الحالات. وسيشجع الموظفين على الأداء والإنتاج لأن القانون الجديد لا يفرق بين رجل وامرأة ومتزوج وأعزب وكبير أو صغير في العمل، فالمعيار الأساسي للتقييم أداء الموظف وإنتاجه. ومحصلة هذه الأمور كلها هو تطور الأداء الحكومي وزيادة الإنتاج، وهو من أهداف أية حكومة تريد أن تعمل بطريقة ناجحة... كما أن تطبيق نظام الرواتب الجديد سيساهم في تعديل الوضع المقلوب في كثير من الإدارات، والتي تحول فيها الاستثناء إلى قاعدة وتحول القانون والنظام إلى استثناء، لا يطبقه إلا القليل وعلى فئة قليلة من الموظفين. نظام كهذا يقوم على الشفافية بلا شك أنه سيساعد على الاستقلالية والانضباط والمساءلة في المؤسسات الحكومية وهذه أمور في النهاية تصب في صالح العمل والبلد... كما يفترض أن تؤدي تلك الأمور إلى تغيير طريقة العمل من أنظمة تتعامل مع الموظفين على أساس "العلاقات" إلى أنظمة قائمة على أساس "القوانين" وهذا ما كان يتمناه كثير من المسؤولين حتى يستطيعوا أن يقوموا بأدوارهم وعملهم بعيداً عن "ضغوط العلاقات" أياً كان نوع تلك العلاقات. بعد كل هذا أليس من الطبيعي أن يكون موضوع جدول رواتب الموظفين المواطنين وغير المواطنين بالجهات الحكومية في إمارة أبوظبي هو حديث المدينة في أبوظبي... وهذا الجدول الذي عدل رواتب الموظفين الحكوميين، أفرح الكثيرين... وتطايرت ورقة جدول تعديل الرواتب بين الموظفين الحكوميين وغير الحكوميين، بل وطارت لتصل إلى بعض الموظفين والمسؤولين في جهات حكومية في إمارات أخرى علهم يستفيدون منها أو يطبقونها ولو بعد حين. قبل أن نتحدث عن المتحفظين والمحتفلين بهذا التعديل، من المهم أن نؤكد أن تعديل جدول الرواتب أصاب نقطة في غاية الأهمية والحساسية كما يؤكد ما جاء في هذا الجدول على بعد نظر من عمل عليه وأقره. فلم يعد يخفى على أحد المنافسة الشديدة بين الشركات والمؤسسات الخاصة والحكومية على استقطاب الكفاءات سواء المواطنة أو غير المواطنة، الأمر الذي أدى إلى التحاق كثير من الكفاءات بالعمل في القطاع الخاص، وترك الوظيفة الحكومية والبقية الباقية من الكفاءات تفكر جدياً في ذلك... وواضح أنه في محاولة جادة وذكية لجذب الكفاءات الوطنية إلى الوظائف الحكومية تم إصدار هذا الجدول وتلك الرواتب العالية وخصوصاً في الدرجات العليا. ذلك التنافس كاد أن يؤدي إلى نضوب الموارد البشرية المتميزة في القطاع الحكومي، وبالتالي فإن ذلك كان من شأنه أن يؤثر على أداء الحكومة المحلية بشكل عام، فلا يخفى على أحد رغم أهمية القطاع الخاص، أن الجهاز الحكومي يعتبر هو الأساس، فالوظائف التشريعية والرقابية وكذلك التنفيذية منوطة به وبالتالي كي تكون هذه الأجهزة على مستوى شركات ومؤسسات القطاع الخاص، فلابد أن يديرها أشخاص ذوو كفاءات عالية جداً– لا يقلون كفاءة عن أولئك الذين يعملون في القطاع الخاص- وكما هو واضح مؤخراً فإن أصحاب الكفاءات الوظيفية العالية لم تعد الوظائف الحكومية تغريهم أو تشجعهم على البقاء، وذلك لسببين رئيسيين؛ الأول هو السبب المادي الذي صار القطاع الخاص ينافس القطاع الحكومي فيه، ولا يتردد في دفع أضعاف ما تدفعه الحكومة من أجل جذب أي عنصر ناجح ومتميز... والسبب الآخر وأعتقد أنه الأهم هي البيروقراطية والبطء والتعقيدات التي تشهدها الأجهزة الحكومية والتي لا تسمح لأي مسؤول حكومي أن يمارس دوره بشكل سليم وطبيعي ولا يحصل على الصلاحيات التي يمكن من خلالها أن ينطلق بإدارته أو دائرته... كل ذلك أدى بشكل طبيعي إلى تسرب أية كفاءة جادة ومتحمسة ترغب في العمل والعطاء وانتقالها إلى القطاع الخاص حيث التقدير المادي أولاً ثم القدرة على العمل، وبالتالي الإبداع والتميز وإثبات الذات. في الوقت الذي نفكر به في أهمية أن ننجح في الحفاظ على الكفاءات المواطنة في الدرجات العليا داخل مؤسساتنا الحكومية، فإنه من المهم جداً أن ننظر إلى الكفاءات المواطنة التي تلي كفاءات الصفوف الأولى من المسؤولين، فهؤلاء أيضاً تحتاج الحكومة إلى المحافظة عليهم والنظر إلى رواتبهم، والأمر الآخر النظر في أحوالهم الإدارية والوظيفية فهؤلاء بينهم كفاءات ممتازة لديها الرغبة في العمل الطموح إلى التميز وهم أيضاً هدف يريد القطاع الخاص اقتناصه ويفترض أن تنتبه الحكومة إليهم وتشجعهم... ففي ظل صعوبة وغلاء المعيشة صارت أوضاعهم ورواتبهم بحاجة إلى تعديلات تساعدهم على مواكبة الطفرة التي تمر بها الدولة كي يستطيعوا أن ينتجوا ولا يشعروا بعدم الاهتمام بهم. نعود للفرحين والمتحفظين... فالفرحين بهذا الإجراء نعرف سبب فرحتهم وهو أن رواتبهم صارت ممتازة كما كانوا يتمنونها. أما المتحفظين على هذا الجدول، فيرجع سبب تحفظهم إلى أن هذا التعديل لم يشملهم في الرواتب وهؤلاء هم من العاملين في القطاعات الأخرى في الشركات والهيئات الحكومية... وكذلك المتقاعدين الذين يستلمون رواتبهم الثابتة ويعيشون وسط حياة متغيرة بل متصاعدة في نسبة المصاريف وتكلفة المعيشة.. واعتقد أنه من المهم أن يتم النظر إلى أوضاع فئة المتقاعدين، وأن يتم إيجاد نظام معين يساعدهم على التأقلم مع تطورات الحياة، خصوصاً أن كثيرين منهم ليس لهم دخل غير معاشهم. أما العاملون في الجهات الأخرى –شركات وهيئات حكومية- فهم أيضاً بحاجة إلى إعادة النظر في أحوالهم ورواتبهم... فالحياة صارت غالية جداً سواء في المأكل أو المشرب أو الملبس فضلاً عن رسوم ومصاريف التعليم والصحة وغيرها، فصار الراتب بالكاد يكفي الموظف حتى نهاية الشهر. أتوقع أن المسؤولين في أبوظبي والقائمين على الخدمة المدنية منتبهون إلى هذه النقاط، وبالتالي يعملون على تداركها لكنني أتمنى أن لا يتأخر هذا الموضوع كثيراً، فواضح أن وضع المواطنين صار صعباً ويزداد صعوبة يوماً بعد يوم وبالتأكيد أن حال كثير من الموظفين المقيمين ليس بأفضل من حال المواطنين. وما دمنا نتكلم عن الرواتب، فمن المفيد أيضاً أن نشير إلى رواتب الطبقة الدنيا من العاملين في المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص الذين يبدو أنهم يعيشون حالة مادية صعبة وبالكاد يسيرون أمورهم المعيشية، وهذه الفئة بلا شك أننا بحاجة إلى خدماتها كما أننا بحاجة إلى خدمات المدراء والوكلاء وغيرهم. فسيكون من المفيد الإطلاع على أحوالهم وإعادة دراستها لتلافي كثير من الآثار الاجتماعية والأمنية التي يمكن أن تنشأ عن سوء أحوالهم المالية. أخيراً يجب أن نؤكد أنه بهذه الخطوة المهمة تكون أبوظبي قد انتقلت خطوة أخرى إلى الأمام في انتهاجها الأسلوب الاحترافي في مؤسساتها الحكومية من خلال أسلوب دفع الرواتب المغرية التي تتناسب ودور كل وظيفة. ويبقى أن نرى تأثير ذلك على أسلوب إدارة وآلية عمل الدوائر والجهات الحكومية التي لا استبعد أن تشهد مفاجآت سارة في ظل التوجيهات الواضحة، التي تعمل على أساسها دائرة الخدمة المدنية الجهة المنوط بها تطوير العمل الحكومي في أبوظبي.