بعد فترة وجيزة على وصولي إلى موسكو كسفير للولايات المتحدة في أبريل 1987، التقيت بالرئيس الروسي السابق "بوريس يلتسين" الذي كان وقتها زعيماً للحزب الشيوعي. وهكذا وبينما سينجح في القفز إلى صدارة الأحداث وسيتعرف عليه العالم خلال الخمس سنوات المقبلة، إلا أن القليل فقط في ذلك الوقت خارج الاتحاد السوفييتي كان يعرفه، أو سمع باسمه. واليوم ونحن ننظر إلى الرجل إثر رحيله عن العالم تبرز أمامنا صورتان مختلفتان: يجسد في إحداهما نموذجاً حياً لأهم ثورة ديمقراطية شهدها العالم في النصف الأخير من القرن العشرين، وفي الأخرى يبدو بمظهر الرئيس المتلعثم، وصاحب الحركات المتثاقلة الذي حكم روسيا في وقت مليء بالاضطرابات والقلاقل، وأشرف على عملية الانتقال إلى ما بعد الحقبة السوفييتية. لكني أعتقد بأنه لكي يُفهم الرجل ويُسلط الضوء على الأحداث التي ساهم في بلورتها يتعين الرجوع قليلاً إلى الوراء والنظر في تلك الفترة التي سبقت صعوده على الساحة الدولية. ففي تلك المرحلة كان "يلتسين" في بعض الأحيان يستقل المترو للذهاب إلى عمله بدل السيارة والسائق المخصصين له، وكان يظهر أيضاً بين الفينة والأخرى في المصانع والمحلات للتحدث إلى العمال. وإذا ما وجد الرفوف في أحد المتاجر خالية من البضائع، كما كان عليه الأمر في أحيان كثيرة، كان يدلف إلى داخل المخزن دون استئذان للتأكد من أن التاجر لا يخزن بضائع لبيعها في السوق السوداء. وفي حالة عثوره على مواد مخزنة لم يكن يتردد في طرد العامل من وظيفته. وبسبب تصرفاته تلك سرعان ما تحول إلى أسطورة ينظر إليه الجمهور بتقدير كبير لأنه يمثل نموذج السياسي القريب من الناس والجاد في السعي إلى تغيير الأوضاع على المستوى الشخصي. وفجأة طُرد "يلتسين" في نوفمبر 1987 من قيادة الحزب الشيوعي بعدما جهر بشكاوى حول بطء الإصلاحات في الاتحاد السوفييتي وتعثرها غير المبرر. غير أن الخطأ الجسيم الذي ارتكبه خصومه السياسيون هو وضع "يلتسين" في منصب سياسي ثانوي داخل موسكو، حيث بدأ يخطط للعودة مجدداً إلى قلب الحدث. ولأني وجدت فيه أحد أكثر المراقبين للسياسة السوفييتية موضوعية فقد حرصت على زيارته بين الحين والآخر، حتى بعد طرده من قيادة الحزب الشيوعي، فكنت أدعوه أنا وزوجتي لاصطحاب عقيلته "راينا" وتناول العشاء معنا. وبالطبع كان لذلك فوائد كبيرة، لا سيما بعدما صعد نجم "يلتسين" مرة أخرى وفاز بمقعد في مجلس ممثلي الشعب بنسبة أصوات بلغت 90% في منطقة موسكو خلال الانتخابات التي جرت عام 1989. فقد تذكر الرجل أني كنت الوحيد الذي ظل يعيره اهتماماً في الوقت الذي نسيه الجميع، لذا كان الاتصال به متاحاً في جميع الأوقات. ورغم سمعة السكير التي لحقت بـ"يلتسين"، فإنني لم أره ثملاً قط، وكان يبدو كرجل يحب الشراب أكثر منه إنسانا مدمنا عليه. وعُرف "يلتسين" أيضاً بفتراته المرضية التي يختفي فيها عن الأنظار لأسبوع، أو أسبوعين ثم يعاود الظهور بعدها في لياقة جيدة. ولا زلت أتذكر أني حضرت حفل زفاف لأحد مساعديه قبل أسابيع قليلة من إعلان خضوعه لجراحة خطرة في الظهر، فشاهدته في أوج نشاطه وراقص جميع النساء اللواتي حضرن الحفل. وأعتقد أن هذا الجانب المرح في شخصية "يلتسين" مثل نوعاً من المقاومة وقوة التحمل التي كان يتميز بها كسياسي. وفي هذا الإطار كان "يلتسين" يملك حساً عالياً بالقيمة السياسية للحركات المسرحية التي كان يقدم عليها أحيانا مثل الطريقة التي اختار بها إعلان استقالته من الحزب الشيوعي عام 1990، إذ بدلا من الدعوة إلى عقد مؤتمر صحفي لإعلان النبأ فضل مغادرة مؤتمر الحزب أمام شاشات التلفزيون. ومع ذلك لم يكن اتخاذ هذا القرار الحاسم بالأمر الهين، حيث أخبرتني زوجته لاحقا أنه من الصعب على شخص من خارج الحزب الشيوعي أن يفهم شعور "يلتسين" "لأنه قضى حياته كلها مرتبطاً بتنظيم معين". ورغم التسرع الذي اتسمت به قرارات "يلتسين" في أواخر فترته الرئاسية وما شابها من أخطاء سوف تعددها بالتفصيل مقالات النعي، فإنه في تلك الأيام الأولى اتسمت فطرته السياسية بحصافة بالغة، وهو ما قاده إلى دعم أغلب السياسات الأميركية. فعلى سبيل المثال عندما قامت القوات السوفييتية في يناير 1991 بالهجوم على مبنى التلفزيون في ليتوانيا حضرنا معاً عرضاً مسرحياً في موسكو نُظم للدفاع عن الحركات الاستقلالية في إستونيا، ولاتفيا وليتوانيا. وعندما رآني أنا وزوجتي طلب من حرسه الذين كانوا يجلسون بجانبه إخلاء المكان لنا، حيث سرعان ما ترك الجمهور متابعة المسرحية وتوجه بأنظاره إلى مكان جلوسنا. ومع أن الحديث الذي تبادلناه لم يكن مهماً في حد ذاته، إلا أن رمزيته كانت بالغة الأهمية بالنسبة لكلينا، حيث كان يحتاج إلى الظهور، في أوج معارضته للرئيس ميخائيل جورباتشوف، بأن لديه علاقات جيدة مع السفير الأميركي. أما بالنسبة لي فكان مهما أن أُظهر موقف أميركا المعارض للسياسة السوفييتية القاسية ضد الحركات الاستقلالية في بحر البلطيق. لقد ترك "يلتسين" بصمته في التاريخ بطرق عديدة لم تكن دائماً موافقة لما يريد. ومع ذلك لم يكن مجرد رجل يحب معاقرة الخمر، ومراقبة مخازن المحلات كما نسجت ذلك الأساطير الشعبية، بل كان السياسي الذي خطط لاستقلال روسيا بعيد انهيار الاتحاد السوفييتي. جاك ماتلوك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ العلاقات الدولية بجامعة كولومبيا والسفير الأميركي السابق لدى الاتحاد السوفييتي في الفترة ما بين 1987 و1991 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"