قالت لي والدتي بلغتها المحلية (الماردلية) حينما سألتها متى ولدت أنا؟ قالت: كان الفرنسيون يخرجون من البلد و"الطوبات" تضرب أي المدافع! وفي مثل هذه الأيام احتفلت سوريا بمناسبة 17 ابريل، إنه دورة تاريخية تذكر بالاستقلال، ولكنها تذكرني بمعتقل "الحلبوني" حيث قضيت 250 يوماً، في غرفة كنا داخلها نحن عشرة أشخاص سوية، لم نتمكن من مد أقدامنا بشكل كامل. لقد ساءت الأمور في كثير من البلدان العربية إلى حد يجعل الناس يتمنون عودة الاستعمار، أما في العراق فأضيف فوق الاستبداد احتلال، مثل السرطان الذي جمع فوقه الالتهاب... والآن وأنا في الستين، أكرر ما يقوله الأمام علي في موعظته لأهل الكوفة، وهو خطاب يصلح لأهل العراق، بعد أن دخل نفق الحرب الأهلية، وانشطر إلى ثلاث دول، قابلة أن تنشطر إلى دول طوائف لا نهاية لها، وأقول: هل فعلاً نلنا الاستقلال؟ والجواب أننا ما زلنا في بطن التاريخ لم نولد بعد أمة، أناس بلا وطن، يهاجرون منه فراراًـ مثل سفينة غارقة، يلقي أهلها أنفسهم بحثاً عن أطواق نجاة، من جوازات أوروبية وأميركية، في جو محيط بارد، وسمك قرش يتربص بهم ريب المنون. إننا نعاصر أموراً لم ترد في أشد الكوابيس ظلامية، وعندما نسمع أن إبراهيم سليمان يزور الكنيست، وهو أميركي سوري من "الرفاق"، في الوقت الذي تطلب كل الحكومات العربية الصلح من إسرائيل... أقول إننا في حالة غيبوبة ودوار، مثل من يمشي على رأسه... ولكن من يمشي على رأسه يفقد رأسه ورجليه معاً... إننا لاشك في حالة جنون... إن جنون البقر يتظاهر بمرض في الرأس، فيفقد الحيوان السيطرة على المنعكسات، ويخر صريعاً إلى الأرض. وجنون البشر يتظاهر بنكس في المادة العصبية، وتحول الدماغ إلى كتلة إسفنجية، محشوة بفراغات مثل قرص شمع النحل. أما جنون المجتمعات فهو خفي لا يظهر إلا بطول تأمل واستقصاء. لقد بحث "ميشيل فوكو" فيلسوف الحداثة الفرنسي، هذه المشكلة في كتاب كامل. ووجد تطابقاً عجيباً بين الهستيريا، واستئصال الرحم عند المرأة. وبذلك دمغت الثقافة الإنسانية نفسها بختم مزور من الفحولة. إن تعريف الجنون عند علي الوردي في كتابه "مهزلة العقل البشري" أنه يتظاهر في عالم البشر بصفتين: الانفكاك عن الواقع والتصريح بذلك... والقرآن يقول إن الأنبياء اتهموا به، لأنهم أتوا بكلام خارج المنظومة الاجتماعية في حالة انفكاك كامل عن الواقع. ونحن اليوم نتعجب مما تعجبوا منه. ونرى أن الإله واحد وهو الشيء الطبيعي والمنطقي، ولكن القوم كانوا يرون أن الشيء الطبيعي والمنطقي، أن الإله يجب أن لا يكون واحداً، وما زالت الكنيسة ترى أن الإله انشطر إلى ثلاثة، بدون أن ينشطر، على شكل أحجية غير قابلة للحل! إذا كان جنون البقر هو تعفن الدماغ وانفكاكه عن الجسم، وإذا كان جنون البشر هو الانفكاك عن الواقع، فإن جنون المجتمعات يجمع كلا الميزتين، فهو انفكاك القيادة السياسية عن الأمة... قال "جواهر لال نهرو" في جلسة مغلقة في مؤتمر باندونغ حين كثر اللغط حول الاستقلال والحرية: "إنكم تفزعونني حتى الموت، عندما تتناولون هذه القضية الخطيرة. هل تظنون أن الحرية والاستقلال، قصاصة ورق يوقعها لكم الاستعمار الذي لا يقدر ولا يرغب في البقاء في أراضيكم... حسنا خذوا هذه الورقة ولكن بدون استقلال ولا حرية... سمعت بعضكم يتحدث عن عضوية الأمم المتحدة وكأنها ملكوت الله. تطلبون فتجابون. هل هذا صحيح؟ الأمم المتحدة بلا فاعلية ولسوف تكتشفون أنها أصبحت مجرد ناد أو مقهى يذهب إليه المندوبون ليشربوا الشاي ويلعبوا. بدل أن يلعبوا بالورق سوف يلعبون بالكلام... إن السيطرة الجديدة لن تكون بالجيوش ولكن بالتقدم… وهناك سبيل واحد إلى التنمية هو العلم، فماذا لدينا منه؟ أخشى أننا سوف نجد مصائر التنمية في أيدي بيروقراطيات متعفنة". إن مشكلة الجنون أن آخر من يعرف به هو صاحبه، ولكنه لا يظنه أكثر من مزحة فلا يصدقها قط.