كنت قد توقعت هنا، وفي نهاية العام الماضي، أن تفوز سيجولين رويال برئاسة فرنسا. وبعد أن ظهرت نتائج الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية اقتربت النبوءة من التحقق خطوة وابتعدت خطوتين. اقتربت خطوة لأن عدداً قليلاً جداً من الفرنسيين والمراقبين العالميين كان يصدق أن تصمد السيدة رويال أمام تحدي "وحش الشاشة" أو "ضبع السياسة" الفرنسية نيكولا ساركوزي. ولهذا السبب أعتقد كثيرون ومنهم فرانسوا بايرو أن ترشيح الحزب الاشتراكي الفرنسي لها كان خطأ كبيراً وأن الفرصة سقطت لهم من السماء لإعلان ترشحهم. وثبت أن هذا التقدير كان خاطئاً. فقد تمكنت "الطفلة البريئة" أو "ذات الرداء الأحمر" من الإفلات من المصير الذي تنبأ لها به كثيرون: فلم "يأكلها الثعلب" كما توقعت الأسطورة. وبالنسبة لسيدة غير ذات شهرة خاصة ولا خبرة عريضة ولا ثروة كبيرة ولا منصب سابقا عظيما... يمثل الحصول على 26.3% من أصوات الناخبين الفرنسيين في منافسة ضد ساركوزي "معجزة". بهذا المعنى اقتربت النبوءة خطوة واحدة وإن كانت كبيرة إلى الأمام. لكن النبوءة نفسها تراجعت أيضاً خطوتين إلى الخلف. فضبع السياسة الفرنسية تمكن من الحصول على 3.2% زيادة عن الأصوات التي حصلت عليها السيدة رويال. ولا شك أن فرصته في الفوز بالرئاسة أكبر بكثير من فرصتها. فمن المرجح أن يحصل نيكولا ساركوزي على الجانب الأكبر من الكتلة التصويتية لليمين المتطرف الذي يجسده جان ماري لوبن وهي 11%. ويعني ذلك أنه يحتاج فقط إلى أكثر قليلاً من 9.5% لكي يفوز بجائزة الرئاسة في قلب أوروبا العجوز. وإذا ثبتت صحة الاستطلاعات التي تقول بأن كتلة بايرو أقرب إلى اليمين منها إلى اليسار بنسبة 3 إلى 2 فهو يستطيع أن ينتزع 12% من نسبة الـ18.8% من الأصوات التي ذهبت لهذه الكتلة وهو ما يضمن له الفوز. أما السيدة رويال فسوف تحصل بكل تأكيد على أصوات اليسار الراديكالي بمن فيهم الخضر (1.5%) والعصبة الشيوعية الثورية (4.6%) والحزب الشيوعي الفرنسي (2%) وأصوات خوسيه بوفيه (1%) و"نضال العمال" (1.4%) ومجموعها 9.5%، وهو ما يصل بالتصويت شبه المضون لها إلى 35.8%. وسيكون الفرق بالتالي كبيراً جداً بحيث يصعب على السيدة البريئة أن تعبر الفجوة لتفوز في الدورة الثانية. أما المعجزة التي يمكن أن تحدث لتفوز رويال فهي محصورة في احتمال أن يتقاعس اليمين المتطرف عن التصويت لصالح ساركوزي كما فعل في عام 2002 عندما صوت لصالح شيراك. ويبدو أن هذا الاحتمال قائم. فرغم أن ساركوزي اقل اعتدالا من شيراك وأقرب إلى اليمين المتطرف منه فإن الأخير قد لا يصوت لصالحه بنفس الحماس لأن ساركوزي من أصول غير فرنسية وهو الأمر الذي يسبب حساسية مرضية لأنصار لوبن. وفي نفس الوقت تحتاج رويال لكي تفوز إلى انقلاب موقف كتلة الوسط التي يمثلها بايرو وهو أمر غير مرجح وإن كان غير مستبعد تماماً. وبتعبير آخر فإن رويال تحتاج إلى معجزة إلهية لتفوز وهو ما يجعلنا نهتف بكل خشوع: يا رب. لا أظن أننا نحتاج إلى تبرير أو تفسير لهذا الهتاف. فرويال أقرب كثيراً إلى التوازن في موقفها من الصراع العربي الإسرائيلي من ساركوزي. وهي تتفهم حاجة الفلسطينيين للعدالة بعد ستين عاماً من المحن القاسية. ورويال أقرب كثيرا أيضاً إلى احترام الثقافة العربية الإسلامية أو أكثر رغبة في فهم هذه الثقافة من خصمها (وربما أيضاً خصمنا) ساركوزي. ولو فاز ساركوزي فسوف تعتبر إسرائيل الانتخابات الرئاسية الفرنسية تصويتاً لصالحها رغم الجرائم المريعة التي ترتكبها يومياً في الأرض المحتلة وتلك التي ارتكبتها في لبنان خلال صيف العام الماضي. وفي نفس السياق فإن رويال هي المرشح المفضل للعرب الفرنسيين وخاصة القادمين من شمال أفريقيا. وأعتقد أنهم يحتاجونها لنصرة مطالبهم في العدالة ووقف جميع صور التمييز القائم على اللون والدين والثقافة والأصل القومي. وهم في غالبيتهم من الطبقات الشعبية التي يضرها ساركوزي بسياساته اليمينية المتشددة والمعادية للعمال ونقاباتهم. وعلى نفس الدرجة من الأهمية تعكس الانتخابات الفرنسية استقطاباً حاداً بين الفرنسيين، لا حول صورة المجتمع والتغيير المطلوب لإعادة شحن فرنسا بالطاقة الخلاقة فحسب بل وأيضاً حول طبيعة العلاقة مع الولايات المتحدة. فالواقع أن رويال أقرب إلى التقاليد الديجولية التي يريد ساركوزي الإطاحة بها لصالح بناء علاقة أقوى (وهي لن تكون سوى علاقة تبعية) مع الولايات المتحدة. ويمكنه أن يتحالف مع اليمين الأوروبي الذي حقق مؤخراً عدة انتصارات انتخابية وخاصة في ألمانيا، ليقود أوروبا نحو تحالف أقوى مع الولايات المتحدة في وجه العرب وإيران والعالم الثالث ككل. وقد يمثل فوزه ضربة لهؤلاء الذين يطمحون إلى بناء نظام دولي متعدد الأقطاب أو متوازن وهؤلاء الذين استبشروا بمعارضة أوروبا للغزو الأميركي للعراق كإشارة لإمكانية معارضة وتقويض احتكار أميركا للقرار الدولي والذين يتطلعون للدفاع عن القانون الدولي وتمكين أمم متحدة حقيقية من القيام بدور إيجابي بنّاء في السياسة الدولية. ولهذا فانتصار ساركوزي سيمثل انزلاقاً نحو تحقق نبوءة صراع الحضارات الذي تقوده إدارة جورج بوش. وكان الرجل قد أعرب بالفعل عن جانب من هذا الصراع فيما يهمنا عندما فرض خلع الحجاب في المدارس العامة الفرنسية وعندما رفض الاعتذار عن ماضي فرنسا الاستعماري في الجزائر حتى أثناء زيارته لها في الصيف الماضي. ولديه بكل تأكيد موقف أكثر تشدداً بكثير إزاء إيران. وقد لا يساعد الولايات المتحدة في ضرب إيران عسكرياً ولكنه سيقدم تغطية دبلوماسية وسياسية وإعلامية إذا قامت إدارة بوش بهذه الخطوة مضاعفاً بذلك تعقيد الموقف الاستراتيجي والسياسي في المنطقة ككل. وتبدو المسألة أكثر عمقاً واتساعاً من الصراع حول الرموز والقضايا الثقافية، بل وأوسع من القضايا ذات الصلة بالاستقطابات الدولية. فالصراع الانتخابي الذي يدور في فرنسا لا يخص فرنسا وحدها بل يبدو وكأنه مسيس الصلة بالأسئلة الكبرى حول مستقبل السياسة والمجتمع في العالم كله. ساركوزي هو تجسيد للمفهوم البيروقراطي الاحترافي للسياسة الميكيافيلية، أما رويال فستظل رمزاً باقياً للمفهوم الشعبي الديمقراطي للسياسة وتقترب من الثورية. فهي تطلب العودة للشعب في كل المسائل الكبرى وتعد بتوسيع قنوات المشاركة. أما ساركوزي فمستعد لإجبار الطبقات الفقيرة وخاصة الأجانب على دفع ثمن تحديث الاقتصاد، مقابل موقف رويال التي ترى أن إنهاء الفقر وتجسير المسافة بين الأغنياء والفقراء هو الطريق السليم لتحديث فرنسا. وبإيجاز فإن رويال ترغب في اكتشاف معنى للسياسة يجعلها مناط اهتمام الفقراء والبسطاء وتريد دولة تعالج مشكلاتهم وهمومهم لا دولة صلفة ومتعالية عليهم. ولا شك أن هذه الرؤية تهمنا كثيراً في العالم العربي. لن تصبح رويال "بطلة" من أبطال العرب، ولن تكون المتحدثة عن مصالحهم أو قضاياهم. فلن يفعل ذلك غير عرب يتبنون قضايا شعوبهم ويعيشون بوجد تجربة أن يكون الإنسان عربياً وخاصة في هذا الزمن الرهيب. ولكني أعتقد أنها قريبة من كل البسطاء وكل من يعانون الظلم في هذا العالم أكثر من غيرها من ساسة أوروبا. وهي قريبة من هؤلاء الذين يبحثون عن نمط جديد للزعامة حيث يكون الرئيس عقلاً كبيراً وشخصاً بسيطاً يتسم بالبراءة في الوقت نفسه.