تقترب الولايات المتحدة وتركيا في الوقت الراهن من مفترق طرق استراتيجي سيحدد شكل ومضمون العلاقات بينهما خلال المستقبل المنظور. والضغوط التي يتعرض لها هذا التحالف الذي استمر منذ أيام ما يعرف بعقيدة "ترومان" عام 1947، والتي تفرض عليه التغيير فرضاً هي ضغوط قوية ليس في ذلك من شك. ولكن الشيء الغريب هو أن صُناع السياسة في الولايات المتحدة وتركيا لا يبدون على إلمام بالحقيقة الجديدة، وهي أن هذه الصداقة التاريخية تتآكل في الوقت الراهن. ما رأيناه بدلاً من ذلك هو أن كل طرف من الطرفين قد افترض أن ذلك التحالف قد استنفد أغراضه، وبالتالي لا مانع من تركه كي يتفكك. هذا هو التصور السائد لدى صُناع السياسة في البلدين على الرغم من أنه كان يتعين عليهم اتخاذ إجراءات جادة لمعالجة نواحي الضعف التي تعتري هذا التحالف وتمتين عرى الصداقة التي خدمت البلدين معاً قرابة نصف قرن من الزمان. وأقل ما يمكن قوله في هذا الصدد إن إخفاق البلدين في إجراء التصحيحات اللازمة على علاقتهما وتحالفهما سيترتب عليه نتائج وخيمة. والحرب الدائرة رحاها في العراق في الوقت الراهن هي السبب المباشر الذي يدفع البلدين إلى الافتراق، ولكنه ليس الوحيد. والانطباع السائد لدى المؤسسة العسكرية والنخبة السياسية التركية منذ أن رفضت تركيا السماح لأميركا باستخدام قاعدة "انجرليك" لفتح جبهة أميركية تنطلق من تركيا في إطار استعداداتها لشن الحرب على العراق هو أن أميركا تسعى إلى معاقبة تركيا. والذي أكد هذا الشعور هو أن الولايات المتحدة لم تقصر في التعبير عن إحساسها بالتعرض للخيانة من جانب الأتراك. ثم جاءت حرب العراق لتصب الوقود على مسألة تعتبر فائقة الأهمية بالنسبة لتركيا، ألا وهي المسألة الكردية. فتركيا لم تكن تخشى ألا تتمكن أميركا بعد الغزو من المحافظة على العراق موحداً فقط، ولكنها كانت تخشى أيضاً من تمزقه وهو ما سيؤدي حتماً إلى استقلال الكيان الكردي الموجود في شمال البلاد والمجاور للمنطقة الجنوبية من تركيا التي تسكنها هي الأخرى أغلبية كردية. ونظراً لأن تركيا تخوض حربا شرسة ومريرة وطويلة الأمد ضد الانفصاليين الأكراد في بلادها، فإنه لا يوجد أدنى تفكير لدى أي أحد في تركيا في السماح بقيام دولة كردية مستقلة في شمال العراق. ووصل الأمر في الأيام الأخيرة إلى حد أن كبار الجنرالات الأتراك اعترفوا بأنهم يفكرون جدياً في التدخل في نهاية المطاف بقواتهم العسكرية في شمال العراق للحيلولة دون تجسد هذا الاحتمال بصرف النظر عن وجود القوات الأميركية هناك أو في أي مكان آخر في العراق. وتشير التقارير الواردة في تركيا أن هذا الموضوع مطروح للمناقشة أمام البرلمان التركي، وأن هناك الكثير من المؤيدين له. علاوة على ذلك فإن مشاعر العداء لأميركا والتي غذتها الفوضى السائدة حالياً في العراق، والذي يعتبر الأتراك أن أميركا هي السبب فيها، قد تفاقمت إلى درجة كبيرة، وهو ما يبدو واضحاً من استطلاعات الرأي التي اثبت آخرها أن 80 في المئة من الأتراك، يرون أن الولايات المتحدة تمثل مشكلة وتهديداً مباشرا للأمن القومي التركي. وتقوم تركيا في الوقت الراهن بعملية إعادة تكييف لتوجهاتها الاستراتيجية التي سادت خلال معظم سني الحرب الباردة، والتي كانت تقوم على العلمانية وعلى التوجه المَرَضي نحو الغرب– وهو توجه كان مصطنعا في الغالب- وقد بدأت تركيا في إجراء تغييرات بطيئة على تلك التوجهات منذ حقبة الثمانينيات من القرن الماضي بحيث تعكس موقفها وأهدافها الاستراتيجية الجديدة. وتلك التوجهات مبنية على فكرة، وهي أن تركيا يجب أن تحقق نوعاً من التوازن في علاقاتها الدولية بحيث تركز في المرحلة القادمة على الدول الإسلامية وعلى الدول الأورو-آسيوية التي كانت تشكل جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق وكذلك الصين مع تقنين العلاقات التركية مع الغرب وذلك من خلال الجهود التي تقوم بها تركيا في الوقت الراهن للانضمام للاتحاد الأوروبي. وهناك في الوقت الراهن جيل جديد من المخططين الاستراتيجيين الأتراك ينظر إلى تركيا على أنها لاعب رئيسي في المجال الأورو آسيوي سواء بالتحالف مع الولايات المتحدة- أو من دون ذلك التحالف- مع الاستمرار في نفس الوقت بالاحتفاظ بموضع قدم قوي في الغرب. في نفس الوقت، فإننا نجد أن كل ما يفعله صناع السياسة الأميركيون في الوقت الراهن، هم أنهم يحاولون إضفاء قلائد المدح على تركيا بالقول إنها نموذج للدولة الإسلامية العلمانية الديمقراطية، وهي قلائد مدح يراها الأتراك إهانة لهم. فهم يرون أن لهم دوراً أكبر وأن بلادهم حليف حيوي في الحرب العالمية ضد الإرهابـ، ونقطة ارتكاز أمني مهم على قوس يمتد من إسرائيل إلى آسيا الوسطى، وأنها ضامن رئيسي للتجارة المنقولة عبر البحر، وخصوصاً الهيدروكربونات، كما أنها دولة خط أول في حالة تسلح إيران نووياً، وممر استراتيجي لخط بترول باكو- تبليسي -جيهان. علاوة على ذلك، ظل الأتراك يتبنون الرأي القائل بأن التعاون معهم أمر ضروري لتحقيق الاستقرار في العراق. ويشعر الأتراك بالدهشة والاستياء من أن السجال الأميركي الدائر حول البحث عن وسيلة للخروج من المأزق العراقي يتجاهل تركيا كلياً، وأن إدارة بوش قد أخفقت في إدراك أهمية تركيا كخط مجابهة أول، وأن الإخفاق الأميركي في العراق يمكن أن تترتب عليه نتائج سلبية مباشرة وطويلة الأمد على المصالح الأمنية التركية. إن الحرب في العراق أدت إلى التسريع من وتيرة المناقشة التي تدور في تركيا في الوقت الراهن بخصوص إجراء عملية إعادة تقييم استراتيجية، تقوم على أفكار محددة منها أن الولايات المتحدة، لم تعد ذلك الحليف الاستراتيجي الذي لا غنى عنه في تركيا، وأن هناك الكثير من البدائل، ومنها على سبيل المثال إقامة تحالفات مع دول أخرى مثل روسيا التي تقوم تركيا بتوطيد علاقاتها الاقتصادية معها، والدول الآسيوية التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق، والتي ترتبط بها تركيا بعلاقات تاريخية وطيدة، والصين التي تبني في الوقت الراهن شبكة قوية من العلاقات في أوراسيا، وإيران التي أصبحت شعبيتها تفوق شعبية الولايات المتحدة في تركيا بالإضافة إلى سوريا. ومما لا شك فيه أن رفض الاتحاد الأوروبي السماح لتركيا بالانضمام إليه- وهي حقيقة بدأ عدد يتزايد على الدوام من الأتراك في الاعتراف- بها سيزيد من معدل سرعة الخطى التركية نحو إنجاز عملية إعادة الاصطفاف الاستراتيجي. وعلى الرغم من أنه ليس في مصلحة تركيا أن تفقد الولايات المتحدة، كما أنه ليس من مصلحة الولايات المتحدة أن تفقد تركيا، فإن الآليات التي تتحكم في تلك العلاقة التاريخية بين البلدين تسير في اتجاه انتهاء التحالف الاستراتيجي الذي كان قائماً بينهما. راجان مينون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ زميل مساعد في معهد هدسون- الولايات المتحدة إندرز ويمبيش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مدير مركز هدسون للدراسات الأمنية المستقبلية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"