عاود بعض الكُتاب العرب والأفارقة الحديث عن تجارة الرقيق خلال الأسابيع الأخيرة (مارس2007) بمناسبة ذكرى مرور 200 عام على إعلان تحريم تجارة الرقيق الذي أصدرته الإمبراطورية البريطانية، وكذلك الولايات المتحدة الأميركية في ذلك الشهر من عام 1807. وقد تذكر الكُتاب العرب هذه المناسبة بالموقف الدفاعي التقليدي الذي تبناه كثير من الباحثين والكُتاب لعشرات السنين خاصة مع تصاعد إيقاعات العلاقات العربية الأفريقية والتعاون التضامني أو الاقتصادي بين المجموعتين. ومن ناحية أخرى راح بعض الكُتاب الأفارقة يذكرون بالأثر السلبي لذكرى هذه التجارة البائسة على العلاقة بين الشعوب العربية والأفريقية، خاصة وأن ثمة دلائل على استمرارها مجتمعياً وفردياً في بعض البلدان العربية حتى وقت قريب أو في الوقت الحاضر. ومثل هذه الظواهر في العلاقات بين الشعوب، تظل عادة مجالاً للبحث الموضوعي من قبل الباحثين، سواء بجوانبها السلبية أو من مواقف دفاعية... الخ. وما دامت قد أثيرت هنا وهنالك فقد وجدت نفسي أتابع هذه المسألة بعقل بارد نسبياً مرتبطة بكثير من المناهج العقلية العربية التي تحتاج إلى تحليل أو مراجعة دائماً. أشعر أن كثيراً من الظواهر التاريخية تتناولها الكتابات العربية، وخاصة الدفاعية منها، مثل تجارة الرقيق، بموقف ينقصه تصور العرب للتاريخ الاجتماعي الإنساني ككل، أو بتحليل علمي للتفاعلات الاجتماعية بين المجموعات البشرية، أو الحضور في العالم وفق القوانين التي باتت مستقرة، خاصة وأن العرب قد عاشوا عصراً من العولمة كانوا هم -في حالة الدولة العربية الإسلامية وإمبراطورياتها- مركز العالم لفترة، أو ذوي نفوذ ممتد على مستوى عالمي، فكيف بهم يرفضون الخضوع للتفسيرات الموضوعية للظواهر العالمية الإنسانية المعروفة في تواريخ ماضية مثل ظاهرة الرق. وقد أدى بنا هذا الموقف الآن إلى حالة من تعوّد تجاهل ما يحدث في العالم سلباً وإيجاباً، فلا نحن بمقرين بنتائج التطورات الإقطاعية أو الرأسمالية في تاريخنا، أو بالنظم الريعية أو الخراجية في التاريخ الماضي والحاضر، ونتائجها الممثلة في تجارة الرقيق أو غيرها، ولا نحن بمستفيدين من تاريخ حركة التحرر الوطني ونهوض شعوب الجنوب في وجه حالات التدهور الحضاري أو السياسي في عصرنا، ومساهمتنا في هذه الظاهرة بدورنا، بدلاً من انسحابنا منها بهذا الشكل المؤسف أو ذاك. وفي مثل حالة تجارة الرقيق العربية نبدو في أفكارنا عنها بالمطلق أو النسبي في حال ما أسماه بعض الباحثين الأفارقة كمثل حالة: "إنكار الهولوكوست" في سلبياتها أو واقعها، ويأتي ذلك من حالة "الصمت المعرفي" عن "الحقائق التاريخية" أو "العزوف الجماعي" الملغوم بإحساس بالذنب، لا تنفع في علاجه حالة الإنكار، وإنما تجدي معه بالتأكيد الدراسة الموضوعية الجدلية للتاريخ الاجتماعي والسياسي، ماضياً وحاضراً. وبقدر الإسهام في التاريخ، تقدر المواقف، وحينما نعزف عن مراجعة التاريخ بجدية، أو نتصلب في الموقف الدفاعي، نبدو في موقف النعامة المعروف بنتائجه! ربما لهذا السبب تصدر الكتب والدراسات الأفريقية، مذكرة العرب بأن ثمة تاريخاً مؤلماً لهم فيما يتعلق بتجارة الرقيق العربية في أفريقيا. ويأتي عرض هذه الكتب في الذكرى المائتين لتحريم تجارة الرقيق من قبل الدول الرأسمالية الغربية التي اتسعت بها هذه التجارة على مدى عدة قرون، وعدة محيطات وقارات، تأتي لتذكر العرب بموقفهم الدفاعي فقط حول هذه الظاهرة، رغم استمرار الحديث عن استمرار بعض جوانبها في بلدان تنتمي إقليمياً للعالم العربي مثل موريتانيا والسودان، وإن تم ربط هذا الحديث، بأغراض ونوايا لا تخفى أيضاً. وفي أحدث ما صدر حول تجارة الرقيق العربية، أعمال مؤتمر كبير وقع في جنوب أفريقيا عام 2003 ونشرت أوراقه عام 2005 باسم "تجارة الرقيق العربية في الأفارقة"، كما صدرت أعمال أخرى في لندن عن مجلة "النهضة الأفريقية"... الخ. والغريب أن الأوراق أو الكتابات الصادرة عن هذه التجمعات الثقافية الأفريقية، وهي تلهب المشاعر حول التاريخ العربي في ممارسة تجارة الرقيق، هي نفسها التي تقدم الجدل العلمي حولها، والمناقشة الأقرب للموضوعية والشمولية للظاهرة، وهي التي تنتهي باقتراح تنشيط الحوار الحضاري بين العرب والأفارقة في ضوء إنارة التاريخ إنارة موضوعية تلتزم -في تقديرهم- بالاعتراف والاعتذار على النحو السائد في الثقافات الأخرى الأوروبية والآسيوية، بدرجة أو أخرى. ففي هذا الصدد -وحيث لا يتوفر مجال هنا إلا للعبور على مجمل هذا الجدل الدائر حول الظاهرة- يقدم الباحثون الأفارقة مثل كويسي براه (غانا) وسيمون سيمون (جنوب أفريقيا) وغيرهما مقولات، يسلم كثيرون بها ولا يرددها الباحثون العرب -وهم في الحالة الدفاعية البحتة التي يتقمصونها– مثل القول بأن كل الحضارات قد عرفت الظاهرة وفي مقدمتها الأوروبية والآسيوية، وأن كل الأديان السماوية اعترفت بوجودها وإن تحفظت عليها بأساليب مختلفة، بل وإن الشعوب الأفريقية نفسها قد مارست هذه التجارة وسلمت أبناءها رقيقاً لأبناء الشعوب الأخرى ومنهم العرب في ظروف صراعات أو تفاعلات متنوعة، كما كتب عن ذلك "والتررودنى" و"براه" وغيرهما. ومؤخراً كتب أحد الباحثين العرب أن هذه التجارة شملت في العالم الإسلامي طوال ثلاثة عشر قرناً في الصحراء الأفريقية والمحيط الهندي ثمانية عشر مليوناً مقابل تجاوز الستين مليوناً على الجانب الأوروبي في أقل من ثلاثة قرون (سعيد الشيمي- القدس العربي 18 أبريل 2007)! وعند هذه النقطة من ذكر الدراسات حول الظاهرة يذكر "براه" مثلاً أن آلاف الدراسات الأوروبية صدرت تعريفاً وتدقيقاً بالتجارة الأطلسية الأوروبية في الرقيق الأفريقي، بينما يمارس العرب -في تقديره- الإنكار أو يلتزمون الصمت! ومن ثم لا تصدر الدراسات المناسبة في الموضوع. والحق أن هذا الموقف العربي هو الجدير بالدراسة، خاصة وأن الجانب الأفريقي، في مؤتمر عام بجوهانسبرج عام 2003، وتطبيقاً لقرارات مؤتمر ديربان عام 2001 حول العنصرية، يطالب بـ"اعتراف" عربي بالظاهرة التاريخية، و"التعويض" عنها كما يطالب بدراستها. ويؤكد هؤلاء الباحثون وغيرهم في المؤتمر المذكور -على أنه ليس المقصود بذلك الانتقام من العرب، ولا مجرد التعويض المادي حيث أشار بعضهم إلى "المشاركة في التنمية" كبديل مفهوم لذلك، وأن هذه اللغة الحوارية الواجبة في تناول الظاهرة، تتم بين الصينيين والكوريين واليابان، وأن المؤتمرين قد استنكروا قيام بعض المنظمات الأوروبية "بشراء الرقيق لتحريرهم" (إشارة إلى ما تم في جنوب السودان أحياناً) وهو ما بدا تشريعاً لتجارة الرقيق لا نفياً للظاهرة في الوقت التي تسجل الاعتذارات الأوروبية عن الظاهرة بصيغ مختلفة. الطريف هنا، لختام هذا الجدل مؤقتاً -أن أحد المدعوين لحضور المؤتمر، قد كتب للمؤتمرين بالاعتذار عن الحضور بل وطلب عدم عقد المؤتمر عام 2003 حتى لا يعطي ذلك سبباً إضافياً لحملة الرئيس بوش على العرب لأسباب جديدة يضيفها للأسباب التي يبرر بها حربه ضد العراق! هنا رد بعض مسؤولي المؤتمر أن الحملة على تجارة الرقيق الأوروبية، لا تعني العداء المطلق لأوروبا كما لا تعني ذلك الحملة على التجارة العربية بالطبع. وبدا من الحوار أن الدراسات العلمية الموضوعية لا تفسد للود قضية. ولاشك الآن أن استعادة ذكرى انعقاد مؤتمر القمة العربية الأفريقية منذ ثلاثين عاماً، ومطالبة بعضنا بالتفكير في العودة لتطوير صيغ هذا التعاون، سواء بالقمة أو غيرها -تعيد للأذهان- ضرورة دفع الدراسات الجادة للظواهر المعوقة لهذا التعاون الذي يتطلب حرصاً عربياً إذا كنا جادين في الحضور العالمي المؤثر بين كتلة بلدان الجنوب وشعوبها.