"الاعتبار لعموم اللفظ لا لخصوص السبب"، أو العكس، قاعدة أصولية كما بينا في مقال سابق، وبالتالي فهي من قواعد المنهج. وقواعد المنهج تختلف باختلاف الموضوعات التي تطبق فيها، والمذاهب الدينية والفلسفية التي ينتمي إليها القائل بها. وفي أصول الفقه الإسلامي، أعني قواعد المنهج الخاصة بإنتاج المعرفة الفقهية الشرعية، آراء مختلفة متباينة بل ومتعارضة، وهذا شيء طبيعي لأنها نتاج الاجتهاد. وبالنسبة للقاعدة التي نحن بصددها يطال الاختلاف فحواها كعبارة، كما يطال المفاهيم الثلاثة التي تتكون منها: العموم والخصوص والسبب. لنبدأ بكلمة نشرح بها معنى "السبب" هنا فنقول: إنه الحادثة أو السؤال الذي يقال عنه عادة إنه "سبب" لورود النص، آية أو حديث. وبما أن القرآن نزل مفرقاً حسب مقتضى الأحوال وعلى مدى أزيد من عشرين سنة، فمن المفترض أن تكون كثير من آياته قد نزلت بمناسبة حوادث ونوازل وأسئلة... الخ، وهذا ما حدث بالفعل. والمسألة المطروحة هنا هي التالية: إذا ورد نص ديني (آية أو حديث) بلفظ يفيد العموم (خطاب بصيغة الجمع)، في قضية خاصة بهذا الشخص أو ذلك، فهل الحكم المنصوص عليه في ذلك النص يخص ذلك الشخص بعينه دون غيره أم أنه يعم المسلمين جميعا؟ الجواب عن هذا السؤال يقتضي أولاً بيان معنى العموم، ومعنى الخصوص، ثم بيان هل يمكن تخصيص العموم وكيف ومتى... الخ، وهذه مسائل اجتهادية وبالتالي موضوع لتعدد الآراء. فلنعرض باختصار لبعض هذه الآراء... لقد حدد الشافعي أصول التشريع في الإسلام -كما بينَّا في مقال سابق- في أربعة هي: القرآن والسُّنة والإجماع والقياس. وعندما صارت هذه الأصول موضوع "كلام" المتكلمين، المليء عادة بالتفريعات والافتراضات، والرد على الخصوم... الخ، صدروا مؤلفاتهم في هذا العلم بمقدمات وأبحاث في قضايا لغوية/ كلامية، تتناول بالتحليل والمناقشة الكلام وأقسامه باعتبار أن القرآن والحديث كلام وأقوال، أوامر ونواهٍ، حقيقة ومجاز، عام وخاص... الخ. فكأنهم أرادوا وضع "لغة ماورائية" لقراءة بيان القرآن! وقد خصص أبو الحسين البصري المعتزلي (صاحب كتاب "المعتمد في أصول الفقه") لهذه المباحث اللغوية 455 صفحة أي ما يقرب من نصف الكتاب، ليتناول بعد ذلك الإجماع، والخبر (الحديث)، والقياس والاجتهاد، والحظر والإباحة، والمفتي والمستفتي. وعندما قام الغزالي باعتماد "المنطق" في علم الأصول، بدل "طريقة المتكلمين"، كما شرحنا في المقال السابق، غير ترتيب موضوعات هذا العلم فوضع المقدمة المنطقية أولاً ثم تكلم في الحكم، ثم في أدلة الأحكام (القرآن والسُّنة والإجماع)، ثم في كيفية استثمار الأحكام (ويتضمن المباحث اللغوية)، ليتناول في الأخير مسألة الاجتهاد وضمنها (التقليد والاستفتاء). وبما أن طريقة الغزالي هي التي سادت في المؤلفات الأصولية اللاحقة إلى اليوم (باستثناء مؤلفات الحنفية) مما جعل من كتابه "المستصفى من أصول الفقه" المرجع الأول والأخير في هذا العلم (والباقي "نسخ" منه مع إضافات وتفريعات أو بدونها)، فإننا سنعتمده في موضوعنا. ينطلق الغزالي في المسألة التي تعنينا هنا، من التقسيم المنطقي للألفاظ، من حيث دلالتها على المعنى، إلى ثلاثة أوجه: دلالة المطابقة كدلالة لفظ الحائط على الحائط، ودلالة التضمن كدلالة لفظ البيت على الحائط، ودلالة الالتزام والاستتباع كدلالة لفظ السقف على الحائط. أما بالنسبة إلى عموم المعنى وخصوصه فالألفاظ تنقسم إلى جزئي مثل لفظ زيد (لا شراكة فيه)، وكلي مثل إنسان (يقال بالشراكة)... ويؤكد الغزالي، مراراً، أن العموم والخصوص من عوارض الألفاظ لا من عوارض المعاني والأفعال: فالعام عبارة عن اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعداً مثل قولنا "الرجال"، و"المشركين"، وقولنا "من دخل الدار فأعطه درهماً". أما اللفظ الخاص فهو إما خاص في ذاته مطلقاً كقولك زيد وهذا الرجل، وإما عام بالإضافة كلفظ المؤمنين فإنه عام بالإضافة إلى آحاد المؤمنين، خاص بالإضافة إلى جملتهم، إذ يتناولهم دون المشركين. فكأنه يسمى عاماً من حيث شموله لما شمله، وخاصاً من حيث اقتصاره على ما شمله وقصوره عما لم يشمله. ويضيف الغزالي قائلاً: ومن هذا الوجه يمكن أن يقال ليس في الألفاظ عام مطلق. بعد هذه التصنيفات ينتقل الغزالي إلى عرض مذاهب الأصوليين والمتكلمين في موضوع العموم والخصوص، وهي ثلاثة: "مذهب القائلين بالخصوص، ومذهب القائلين بالعموم، ومذهب الواقفية". أما القائلون بالخصوص فإنهم يقولون: لفظ المشركين مثلاً موضوع لأقل الجمع وهو للخصوص، بمعنى أنه عموم قد خصص. وأما أرباب العموم فيقولون هو الاستغراق، فإن استعمل في معنى البعض فهو استعمال مجازي. وأما الواقفية فإنهم يقولون إن اللفظ مشترَك، وإنما يُنَزَّلُ على خصوص أو عموم بقرينة وإرادة معَيِّنة، مثله في ذلك مثل لفظ العين: فإن أريد به الخصوص فهو موضوع له لا أنه عام قد خصص، وإن أريد به العموم فهو موضوع له لا أنه خاص قد عمم. فإذا كان هذا اللفظ مؤولاً على كل مذهب، فيكون معناه أنه كان يصلح أن يقصد به العموم فقصد به الخصوص... وبعد أن يعرض لأدلة أصحاب كل مذهب من هذه المذاهب الثلاثة وردود بعضهم على بعض وردوده هو على من يخالفهم الرأي، ينتقل إلى بيان متى يكون اللفظ عاماً فيقول: "إنما يمكن دعوى العموم فيما ذكره الشارع على سبيل الابتداء: آيات أو أحاديث لا ترتبط بـ"سبب نزول" معين، أما ما ورد من قرآن أو حديث كجواب لسائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم في أمر ما، فإنه ينظر فيه: فإن أتى بلفظ مستقل لو ابتدأ به كان عاماً... كما سئل (النبي) عن ماء البحر فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" فهو عام. وأما إذا لم يكن مستقلاً نُظر: فإن لم يكن لفظ السائل عاماً فلا يثبت العموم للجواب، كما لو قال السائل للنبي "توضأت بماء البحر" فأجابه "يجزيك"، أو قال "وطئت في نهار رمضان" فأجابه "أعتق رقبة"، فهذا لا عموم له لأنه خطاب مع شخص واحد. وإنما يثبت الحكم في حق غيره بواسطة القياس عليه، أو باعتماد قوله عليه الصلاة والسلام "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة"، وذلك بشرط أن يكون حال غيره مثل حاله في كل وصف مؤثر في الحكم حتى لا يفترقا إلا في الشخص والأحوال التي لا مدخل لها في التفرقة، من الطول واللون وأمثاله. ومن بيان معنى العموم إلى مسألة "الاعتبار لعموم اللفظ لا لخصوص السبب". فالقائلون بالعموم يؤكدون أن وُرود اللفظ العام على سبب خاص لا يسقط دعوى العموم، لأن الحجة هي في لفظ الشارع المجيب لا في السؤال والسبب. أما المخالفون، وهم "أرباب الخصوص" القائلون بأن الاعتبار لخصوص السبب لا لعموم اللفظ، فيقولون: إن لفظ الآية يكون مقصوراً على الحادثة التي نزل هو لأجلها، أما أشباهها فلا يعلم حكمها من نص الآية، إنما يعلم بدليل مستأنف آخر هو القياس إذا استوفى شروطه أو قوله صلى الله عليه وسلم "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة". ويحتجون لقولهم بجملة أمور منها: أنه لو لم يكن للسبب تأثير لجاز إخراج السبب كما لو لم يرد، ولو لم يكن للسبب مدخل لما نقله الراوي إذ لا فائدة فيه، ولولا أن المراد بيان السبب لما أخر إلى وقوع الواقعة. ومما يحتج به أرباب الخصوص قولهم: إن التطابق بين سؤال السائل وجواب القرآن يفرضه العقل والحكمة ومتطلبات البلاغة . وهذا التطابق لا يستقيم إلا بالمساواة بين لفظ العام وسببه الخاص. والتساوي لا يكون إلا إذا خصصنا اللفظ العام بسببه الخاص. ذلك نموذج من مناقشات الأصوليين لمسألة العموم والخصوص، ولمن منهما يجب أن يكون الاعتبار؟ وكما هو واضح فمناقشاتهم في هذا الموضوع لا تؤدي إلى ما يمكن أن يكون "حكماً عاماً" أو "قانوناً"، بل يبقى الكلام فيها على مستوى الجزئيات! ذلك لأن مفهوم العموم هنا هو عموم اللفظ لا عموم المعنى. وقد أكد الغزالي نفسه على هذه المسألة حينما نبه مراراً إلى أن "العموم والخصوص من عوارض الألفاظ لا من عوارض المعاني". وما دام الأمر كذلك فالمغيَّب هو قصد الشارع، وقصد الشارع يتعلق بجميع من توجه إليهم القرآن بالخطاب، لا كأفراد بل كمجموع كأمة (حتى ولو كان اللفظ مفرداً والمعنى جزئياً". وهذه مسألة بالغة الأهمية كما سنرى لاحقاً.