قطع علينا حلول الذكرى البغيضة لاحتلال العراق مواصلة النقاش حول قمة الرياض ونتائجها، وثمة محور مهم في هذه النتائج يحتاج وقفة تأمل وإمعان نظر هو ذلك المتعلق بما يمكن تسميته بملفات المستقبل، فثمة انطباع عام بأن مواجهة القمة للأزمات الملحة التي يعاني النظام العربي من أعراضها الحادة جاءت دون المستوى، كما يظهر من الحالات اللبنانية والعراقية والفلسطينية والسودانية والصومالية، لكن انطباعاً آخر ساد في الوقت نفسه بأن خطاب القمة قد اختلف بشأن بعض القضايا بالغة الحيوية بالنسبة للمستقبل وفي مقدمتها قضية الأمن القومي العربي، فكيف نقيم هذا الاختلاف في خطاب القمة؟ وكيف يكون النهج السليم في التنبؤ بالمردودات المحتملة لهذا الخطاب الجديد -أو على الأقل المختلف- على المستقبل العربي؟ أكدت قرارات القمة المتعلقة بالأمن القومي العربي أن قضاياه تستدعي المعالجة من خلال منظور شامل ومتعدد الجوانب يأخذ في الاعتبار مصادر التهديد السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وأشكاله. تستوي في ذلك المصادر الخارجية أو الداخلية، وقد لا يمثل هذا سوى تأكيد على ما تؤمن به النخب العروبية كافة، غير أنه يذكر للقمة أنها تجاوزت "محاولات التأصيل" لمفهوم الأمن القومي العربي إلى الحديث عن آليات محددة، حيث نص قرار القمة على تشكيل مجموعة عمل مفتوحة العضوية على مستوى الخبراء المتخصصين لدراسة طبيعة الأخطار والتحديات الراهنة والمستقبلية التي تواجه الأمة العربية وتحديدها، وإعداد مقترحات للتنسيق بين مختلف الآليات القائمة في إطار جامعة الدول العربية والمتعلقة بالأمن القومي العربي، ووسائل تطوير المعاهدات وتفعيلها وتنفيذ الاتفاقيات والقرارات ذات الصلة بالأمن القومي العربي، والاعتماد على شبكة المراكز العربية المتخصصة في البحوث والدراسات الاستراتيجية. الأكثر من هذا أن القمة قد تجاوزت كذلك الحديث عن الآليات إلى وضع برنامج زمني محدد، فنص قرارها على أن تعرض نتائج مجموعة العمل المشار إليها على اجتماع خاص لمجلس الجامعة على مستوى وزراء الخارجية تمهيداً لاتخاذ القرار المناسب بشأنها كي تعرض على الدورة العادية 128 (والتي تعقد في سبتمبر القادم)، أي أننا بصدد برنامج زمني لا يطول أمده عن أربعة شهور تقريباً، وهو برنامج طموح يعكس الجدية الفائقة في إرادة التنفيذ، وإن كان يواجه خطر قيود الوقت بالنسبة لتحقيق هدف بأهمية ذلك المنوط بمجموعة العمل هذه، وقد دعا القرار الأمين العام إلى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتنفيذه والتنسيق بين عمل هؤلاء الخبراء والأنشطة الأخرى الجاري اتخاذها بمقتضى قرارات القمة، وتقديم تقرير بشأن نتائج الدراسة وتوصياتها إلى القمة التالية. وتظهر الدراسة المتأنية أن هذا القرار لقمة الرياض قد يكون أوضح القرارات وأكثرها تفصيلاً في سياق القمم العربية فيما يتعلق بالأمن القومي العربي. وقد نذكر أنه حتى قمة عمان 1980 التي كان لها الفضل في تبني عدد من الوثائق التفصيلية القيمة عن العمل العربي المشترك تحدثت فيما يتعلق بالأمن القومي العربي عن برنامج لـ"مواجهة العدو الصهيوني" وليس عن نظرة شاملة لمصادر التهديد وطرق المواجهة، أو تناولت أبعاداً للأمن القومي العربي في إطار استراتيجية العمل الاقتصادي العربي المشترك، أما القمم الأخرى فقد تحدثت عادة في عبارات عامة عن الأمن القومي العربي، أو ركزت على بعد من أبعاده بعيداً عن بلورة نظرة شاملة له ناهيك عن غياب آليات التنفيذ في كثير من الأحيان، الأمر الذي أدى عادة إلى ضعف عملية المتابعة. وربما يكون الأهم من هذا إدراك قمة الرياض -وفقاً لديباجة القرار- خطورة مصادر التهديد التي تواجه الوطن العربي وتنوعها، بحيث لم تعد تقتصر على التهديدات الموجهة لأمن الدول العربية وسلامتها واستقلالها وسيادتها ووحدة ترابها الوطني، ويعني هذا أن الفارق النوعي في خطاب قمة الرياض عما سبقها من قمم لا يعود إلى مواقف "فكرية" وإنما إلى استجابة سليمة لموقف بالغ الخطورة يواجهه النظام العربي من منظور أمنه القومي. والآن كيف يمكن لنا أن نقيم هذا كله بموضوعية وتجرد؟ لو استخدمنا معايير الماضي في الحكم على القرار المذكور فستكون النتيجة محبطة بالتأكيد، لأن قمة عمان 1980 على سبيل المثال، وقد استشعرت خطورة وضع الأمن القومي العربي في أعقاب الانشقاق المصري- العربي حول التسوية مع إسرائيل، تثبت أن العبرة ليست بالقرارات وإنما بتنفيذها، فقد ذهب كل ما تبنته القمة من وثائق ممتازة للعمل العربي المشترك أدراج الرياح، بل إن مسار النظام العربي سرعان ما تحول بعدها بأقل من سنتين باتجاه مغاير لما رسمته تلك القمة، كما يتضح من قرارات قمة فاس 1982 التي تجاوزت وثائق قمة عمان برمتها، ودشنت مساراً جديداً باتجاه قبول التسوية مع إسرائيل التي قامت قيامة العرب ولم تقعد عندما اتبع السادات النهج نفسه إزاءها اعتباراً من 1977. لابد من الرهان إذن على أن ثمة شيئاً مختلفاً في مناخ العمل العربي المشترك الذي أحاط بقمة الرياض عما سبقها من قمم بما يبرر لنا الأمل في أن توضع قراراتها موضع التطبيق. والحقيقة أن هذا الاختلاف موجود، فقد تعاظمت مصادر تهديد الأمن القومي العربي، وتفاقمت المخاطر المحيطة به في عدد من الأقطار العربية على نحو ينذر بكارثة حقيقية، ويشعرنا بحنين إلى تلك الأيام التي كان العرب فيها مؤرقين بأعباء الصراع العربي- الإسرائيلي فحسب، فإذا بهم الآن يدافعون عن كياناتهم القطرية في عديد من البلدان العربية. كذلك فإن ثمة دوراً سعودياً نشطاً استعاد التركيز على عروبة النظام وحماية هويته والتصدي للمخاطر التي تحيط به، وعلى الرغم من حدود هذا الدور وعدم تصادمه حتى الآن مع المشاريع المعادية للأمة العربية فإن التحول المعلن الذي ألم به لا يرضي خصوم هذه الأمة بالتأكيد، كما أن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية تنشط حالياً في متابعة قرارات القمة، ومن هنا فإن ثمة عملاً دؤوباً يتم الآن لمحاولة ترجمة هذه القرارات إلى واقع. هل يعني هذا أننا بسبيل نقلة نوعية للنظام العربي فيما يتعلق بملف الأمن القومي العربي وغيره من الملفات ذات الصلة في المستقبل القريب؟ لا يمكن بالتأكيد الإجابة بـ"نعم" مريحة على هذا السؤال، فأمام قرار قمة الرياض المتعلق بالأمن القومي وغيره من القرارات المرتبطة به أكثر من عنق زجاجة لابد من الخروج منها الواحدة تلو الأخرى كي يمكننا القول بأن مثل هذه النقلة قد حدثت: هناك أولاً ضرورة نجاح اللجان المنوط بها دراسة القضايا ذات الصلة، وهناك ثانياً ضرورة تبني مجلس الجامعة على المستوى الوزاري لنتائج هذه الدراسات، وهناك ثالثاً ضرورة دعم القمة العربية القادمة في سوريا لقرارات المجلس الوزاري، وهناك رابعاً وأخيراً ضرورة التزام الدول العربية بتنفيذ ما يتخذ من قرارات على صعيد القمة وعدم الاكتفاء بـ"تفادي الحرج" من خلال الموافقة على القرارات دون نية جادة لتنفيذها. لكن المخلصين من أبناء هذه الأمة -وبالذات أولئك الذين لديهم من العلم والخبرة ما يقدمونه في هذا الصدد- لا ينبغي عليهم البقاء في مقاعد المتفرجين والاكتفاء بإصدار الأحكام، فمستقبل الأمة أهم وأخطر وأعز من أن يترك للقوى الرسمية في النظام العربي كي تضطلع وحدها برسم خطوطه، وإنما يجب على كل صاحب معرفة وخبرة وكل مركز بحثي أن يصنع التفاؤل بالمستقبل صنعاً من خلال أقصى العطاء من الأفكار التي تساعد على إنجاح قرارات القمة وأقوى الضغوط من أجل تحويل هذه القرارات إلى حقائق تساعد على الخروج من المأزق العربي الراهن بدلاً من أن تبقى شاهداً على أمة أدركت مكامن الخطر، لكنها أخفقت في توقي تداعياته.