لاشك أن الانخراط في تقديم خدمة للأمة هو تشريف وتكليف في الآن نفسه يحاط بهما الشخص الذي وقع عليه الاختيار. وتزداد المسؤولية أكثر كلما كانت الأمة تمر بأزمات أو تخوض حروباً، كما تشهده الولايات المتحدة في هذه المرحلة من خلال حربها في العراق. فبسبب تلك الحرب التي لم تسرْ كما خطط لها، غرقت الأمة الأميركية في أزمة ثقة حادة وفقدت بوصلة الاتجاه فيما يتعلق بسياساتها الخارجية، لاسيما في منطقة بالغة الأهمية بالنسبة للمصالح الحيوية الأميركية كمنطقة الشرق الأوسط. فعندما اقتُرح عليَّ التفكير في تقلُّد منصب المدير التنفيذي في البيت الأبيض ومسؤولاً عن حربي أفغانستان والعراق، أدركت على الفور بأنها لن تكون مهمة سهلة، لكنني في الوقت نفسه شعرت بأنه تشريف لي، وبأن المنصب ينطوي على أهمية كبيرة لنجاح الجهود الأميركية في العراق على وجه التحديد. فقد سبق لي أن عملت كمساعد عسكري لنائب وزير الدفاع في أواسط الثمانينيات، ثم تقلدت بعد ذلك منصب القائد الأعلى للقيادة الأطلسية إبان عملية كوبا وهاييتي، كما ساهمت في إعادة إعمار هذه الأخيرة. ومن خلال تجربتي السابقة عرفت بأن طبيعة المنصب المقترح تحتاج أولاً إلى قبول مختلف الوكالات الحكومية المعنية بالتخطيط للحروب ورسم الاستراتيجيات بالتعاون معه، حيث يتعين على المنظمات الحكومية وقياداتها وضع ثقتهما التامة في المنصب الجديد والإيمان بدوره ومسؤولياته. والأهم من ذلك يتعين على تلك الأجهزة الحكومية المختلفة العمل على صياغة وتطوير استراتيجية واضحة لمقاربة السياسة الخارجية. والواقع أنني اكتشفت من خلال مداولاتي مع أعضاء حاليين وسابقين في الإدارة الأميركية، غياب نظرة استراتيجية متفق عليها بشأن المشاكل التي يتخبط فيها العراق، أو المنطقة ككل. وفي نظري ثمة ثلاث استراتيجيات في العراق يمكن الاختيار بينها: تقوم الأولى على التقدم شبراً بعد آخر في الأرض، وانتزاع حي إثر حي، وتوفير الموارد الضرورية والوقت الكافي للسيطرة على النتيجة النهائية في العراق، ثم الانتقال إلى مرحلة التطوير مهما تطلب ذلك من جهد ووقت. وتبدأ الاستراتيجية الثانية بالتركيز على فرض الأمن من خلال وضع معايير تلتزم بها كل من الولايات المتحدة والعراق مع تحديد قيود متعلقة بالوقت لتحقيق الأهداف المرجوة. وتكمن قيمة هذه الاستراتيجية في وضعها لأهداف قابلة للقياس والتقييم تندرج في إطار استراتيجي معين. أما الاستراتيجية الثالثة والأخيرة فهي تطل على المنطقة بأكملها دون حصر انتباهها على العراق فقط. وبعبارة أخرى تطرح هذه الاستراتيجية السؤال التالي: أين يمكن وضع العراق ضمن سياق إقليمي أوسع؟ فالولايات المتحدة ستواصل سعيها للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط الكبير حتى بعد أن تنتهي الأزمة في العراق، وهي في هذا الإطار ستبقي على تواجدها العسكري بشكل أو بآخر في المنطقة. يضاف إلى ذلك معطى آخر يتمثل في الأزمات الوجودية والتهديدات الحقيقية التي خلفتها الحرب في العراق على دول الجوار، فضلاً عن الانقسامات التي ظهرت في صفوف حلفائنا الأوروبيين، وهو ما صعّب التعاون معهم في مجالات أخرى. وفي الحالة الإيرانية فقد سمحنا لطهران من خلال الحرب في العراق بتطوير خيارات سياسية متعددة، فضلاً عن إمدادها بأوراق لم تكن متاحة لها قبل سنوات قليلة فقط. والحال أن إيران تشكل تهديداً أيديولوجياً وقوة قادرة على زعزعة استقرار الدول المجاورة، والأهم من ذلك قدرتها على المس بالمصالح الأميركية في المنطقة. ومن بين الاستراتيجيات الثلاث سالفة الذكر، تعتبر الأخيرة الأكثر نفعاً للمصالح الأميركية، لكنها تبقى مع الأسف الأقل تطويراً في الإدارة الحالية. وبالرجوع إلى منصب مدير التنفيذ الذي اقترح علي لابد من الإشارة إلى أن المهام اليومية التي ينطوي عليها ذلك المنصب تحتاج إلى قوة فكرية وعاطفية لحل المشاكل المزمنة ضمن بيروقراطية البيت الأبيض التي تبيَّن تعثرها في حرب العراق. فلابد من وضع الأنشطة المختلفة مثل إرسال قوات أميركية إضافية إلى العراق ضمن إطار استراتيجية شاملة تنظر إلى القرار في علاقته بالجوانب الأخرى، بدلاً من النظر إليه كواقعة منعزلة ذات أهداف منفصلة عن الغاية النهائية. ولابد أيضاً من إقامة العلاقة الضرورية بين العمليات قصيرة المدى والأهداف الاستراتيجية التي تمثل المصالح الأميركية على المدى البعيد؛ مثل ضمان الوصول إلى موارد الطاقة، ودعم الدول ذات التوجه الغربي. وبالطبع تحتاج هذه الاستراتيجية إلى الدخول في حوار وشراكة مع الدول التي تعيش في المنطقة الساخنة، ولا يمكن اختصار هذه المهمة في مفاهيم مثل "نشر الديمقراطية في المنطقة"، أو تكرار العبارات نفسها التي تلوكها مجموعة صغيرة في واشنطن حول ضرورة "النصر" والزعم بأنه قادم لا محالة ما دام مفهوم النصر نفسه خاضعاً لتحولات متعددة. لقد كان شرفاً كبيراً لي أن أرجع مرة أخرى لأخدم أمتي، لكن بعد العديد من اللقاءات التي جمعتني مع أشخاص داخل الإدارة الحالية وخارجها، تبيّن لي أن عملية اتخاذ القرار كما تجري في واشنطن هذه الأيام، تفتقد إلى ذلك الرابط الأساسي بين النظرة الشاملة للمنطقة وبين الأجزاء المختلفة للصورة. فقد كان الأداء الأميركي في بداية الحرب الأفغانية جيداً، لكننا سرعان مع فقدنا التركيز، وفشلنا في تحقيق الأهداف في العراق. ولهذه الأسباب مجتمعة طالبت بإعفائي من الترشيح للمنصب المهم في البيت الأبيض، ذلك أن أوجه الخلل الكثيرة لن تصوب من خلال تعيين شخص إضافي في واشنطن، بل تحتاج إلى المعالجة حتى قبل تسلم مدير التنفيذ لمهامه. ــــــــــــــــــــــــــ جنرال أميركي متقاعد في قوات مشاة البحرية ــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"