تدريجياً اختفت الرطانة الأميركية, "البوشية" و"النيومحافظة", حول "ضرورة نشر الديمقراطية" في العالم العربي. ما عدنا نسمع عن أنشطة "إليزابيث تشيني", ومن معها, في مشروع "الشراكة" لترويج الديمقراطية في المنطقة. جورج بوش نفسه, الغارق في دم "ديمقراطية" العراق, نسي الفكرة, أو تناساها. مسؤولو إدارته وخاصة "كوندوليزا رايس", التي يعتبرها البعض أخف الأصوات تطرفاً في الإدارة الحالية, لم تعد تتحدث لمن تزورهم من الحكومات العربية عن الديمقراطية, أو الإصلاح, أو حقوق الإنسان المهدورة. كل همها, وهم إدارة بوش من ورائها, هو حشد العرب ضد إيران. حيثيات ومنطق مشروع "الحشد العربي ضد إيران"، تتناقض مع أي توجه أو سياسة تنطوي على ضغط, مباشر أو غير مباشر, خفيف أم قوي, على حكومات المنطقة بغية الانخراط في مشاريع دمقرطة حقيقية. المشروع الأميركي, إن جاز الوصف أصلاً, ورطانته لنشر الديمقراطية في البلدان العربية ولد ميتاً, لأنه يأتي من إدارة فاقدة للحد الأدنى من الصدقية والسمعة ليس فقط في المنطقة بل وفي العالم. لم تصل تلك الرطانة حتى في أوجها إلى شبه نية مخلصة تتبعها سياسات حقيقية. واختفاء المشروع عن الأجندة السياسية الأميركية ليست فيه في الواقع مفاجأة كبيرة. كل الذين نظروا بعمق في حيثيات ومعطيات وتصورات وافتراضات ذلك "المشروع" من يوم إعلانه توقعوا له نهاية سريعة, إن لم نقل مفجعة. تُرى بماذا سيصرح جورج بوش إزاء ما كان قد قاله قبل عدة سنوات من أن السياسات الأميركية وقعت في خطأ تاريخي في المنطقة عندما دعمت أنظمة ديكتاتورية وغير ديمقراطية لمدة ستين سنة, وأن الوقت قد جاء كي تغير واشنطن تلك السياسة، وتتبنى عوضاً عنها سياسة تواجه أو على الأقل تنتقد, ولا تمالئ ديكتاتوريات المنطقة. إحلال الديمقراطية في أي من البلدان العربية هدف نبيل، ومن أجله ضحى كثير من النشطاء العرب والسياسيين والمثقفين المخلصين, قبل أن يكتشف جورج بوش غيابها في المنطقة. والشروع في الدمقرطة قد يساعد تطور عوامل داخلية أو خارجية, أو خليطاً منهما, فليست هناك قواعد رياضية تضبط هذه, وما يشابهها, من صيرورات سياسية اجتماعية وثقافية. وعامل الضغط الخارجي مطلوب ومفيد في حالة البلدان العربية (مع ضرورة التأكيد على تحييد أي أجندات سياسية لمن يقوم بذلك الضغط). والرصد الموضوعي لتطور أية توجهات نحو الانفتاح السياسي أو الدمقرطة في المنطقة, على تواضعها, سوف يضع إصبعه على أثر العوامل الخارجية, بشكل مباشر أو غير مباشر. فمن شبه المؤكد أن النشاط الدائم لمئات المنظمات الحقوقية في طول وعرض البلدان العربية, وكثير منها إن لم يكن أغلبها اشتغل، ولا زال يشتغل بدعم من منظمات حقوقية وغير حكومية أوروبية وغربية قد أحدث حراكاً مهماً في السنوات القليلة الماضية على جبهة الدمقرطة العربية. وهذا الحراك المطلوب والمرحب به يختلف عن الحراك النفاقي الذي رافق المشروع الأميركي وشنقه سريعاً بكل الأحوال. تعود السياسة الأميركية, إذن, إلى سابق عهدها: سياسة المقايضة التاريخية. في هذه السياسة وكما شهدناها في العقود الماضية تمنح واشنطن رضاها وسكوتها عن الأوضاع الداخلية ودعمها لمن يطلبه, مقابل مبادلة ذلك الرضى والسكوت والدعم بمواقف وسياسات مؤيدة ومنسجمة مع أهداف الولايات المتحدة. لا يعني هذا أن مصلحة بعض البلدان العربية, أو ربما كلها, قد لا تلتقي مع المصلحة الأميركية في قضية ما, أو جانب من جوانب السياسة الإقليمية. لكن هذا التلاقي يكون مفهوماً إن قام على أساس ندي, وليس على أساس المقايضة وتطبيق النسخ الأسوأ والأكثر بشاعة من سياسة تقديم أولوية المصالح القومية الأميركية على أولويات شعوب المنطقة, وتحقيق تلك المصلحة بأقصر الطرق, وأكثر التضحيات التي ستدفعها تلك الشعوب المنكوبة بأوضاعها بحكوماتها. أوجه سياسة المقايضة شهدناها خلال العمر القصير للمشروع الأميركي لنشر الديمقراطية, وهي التي كشفت عورة هذا المشروع. فقد غضت الولايات المتحدة النظر عن حقوق الإنسان المنتهكة في هذا البلد العربي أو غيره, وأحالت مسألة الديمقراطية على الرف, حين قدمت لها هذه الحكومة أو تلك خدمات مندرجة في سياق المصلحة القومية الأميركية. إن تخلّى بلد من البلدان عن برنامج (مزعوم) لتصنيع أسلحة دمار شامل, فإنه يظفر بإشاحة النظر الأميركي عن الوضع الداخلي. وإن قدم أحد البلدان أقصى ما يستطيع على صعيد "التعاون الأمني والاستخباراتي" المطلوب أميركياً في "الحرب على الإرهاب", فإن هذا البلد يلوي الذراع الأميركية ويُسقط المطلب الديمقراطي. وإن وظّف بلد ما ورقة العلاقة مع إسرائيل, والتطبيع, أو التلويح به, فإنه بهذه الورقة يستطيع دخول دائرة الرضى الأميركي الذي يجبّ ما هو قائم من انتهاكات حقوقية وتغييب للديمقراطية. غير أن آخر ورقة توت نُزعت عن المشروع العتيد كانت عقب فوز "حماس" في الانتخابات الفلسطينية, عبر ممارسة ديمقراطية نزيهة وحرة شهد بها كل المراقبين الدوليين. فهنا خلعت واشنطن كل أردية الديمقراطية البلاغية، ولفظت بقايا مشروعها وشراكتها، وكأنما أعلنت الحرب على الديمقراطية الفلسطينية. اختبار "حماس", ليس فقط "لرؤية" أميركا للديمقراطية العربية بل وأيضاً للسياسة الغربية والأوروبية تحديداً, زعزع القناعات غير الراسخة أصلاً بأولوية وإلحاح المسألة الديمقراطية في الفضاء العربي. ويحتاج الخراب الناتج عن ذلك إلى جهود وسنوات لإعادة الاحترام لمفهوم الديمقراطية أساساً. على كل حال, هذا التسيس الأميركي النفاقي إزاء مشروع الدمقرطة ليس بجديد, لكنه الآن يؤذن بعود جديد إلى بدء قديم. وما هو أهم منه يتمثل في إعادة طرح السؤال الكبير والصعب على المثقفين والناشطين والديمقراطيين العرب بشأن مصير ومسير الديمقراطية العربية: كيف يمكن تحريك هذا الكائن الخرافي المسمى الديمقراطية العربية وزحزحته ودفعه إلى النهوض؟ هل ثمة طرق أو آليات أو أفكار إبداعية أو عناصر ضغط محلية تساهم في نهوضه. وكيف يمكن تفعيل "الشارع العربي" المحبط واللامبالي إزاء قضية الحريات السياسية وحقوق الإنسان والديمقراطية. كيف يمكن أن تصبح هذه المسائل أولوية مجتمعية وفردية ضاغطة؟ ثم ما هو المدى الذي من الممكن قبوله, والمطالبة به, إزاء الضغط الخارجي البعيد عن الحكومات والأجندات؟ من ناحية أخرى, وبشكل شبه أكيد, من المفهوم أن تأخذ أنظمة عربية كثيرة أنفاس ارتياح عميقة بعد أن هدأت "زوبعة وموضة الديمقراطية" التي أزعجتها لوقت قصير. وهنا أيضاً سنشهد عوداً متجدداً لبدءٍ تقادم وظل مملاً وممجوجاً. فمن التمديد إلى التكريس إلى التوريث تصر الأنظمة العربية على أن تكون الاستثناء شبه الوحيد في عالم اليوم, الذي تقف الديمقراطية يتيمة وبائسة على بابه. كيف لا والقمة العربية الأخيرة بدورها نسيت أن تذكرنا بالإصلاح والديمقراطية وبرامج تطبيقهما, وهما الموضوعان اللذان كان على رأس أجندتها اللفظية قبل عام واحد لا أكثر.