الشائعات التي أثارت خوف الكثيرين، مؤخراً، حول وجود فواكه محقونة بفيروس الإيدز، هي شائعة عابرة للجغرافيا، حيث تم تداولها، وبالصيغة ذاتها وربما بشكل متزامن، في إحدى دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ونفتها السلطات هناك أيضاً مثلما تصدّى لها جهاز أبوظبي للرقابة الغذائية. بعضهم يرى أن السبب الرئيسي في تفشي هذه النوعية من الشائعات هو ضعف الوعي بطرق انتشار مرض الإيدز، ما فتح الباب واسعاً أمام إثارة المخاوف والهلع بين متداولي الشائعة، وربما يكون ذلك صحيحاً بالنسبة إلى بعضهم أو لشريحة قليلة من الناس، ولكن انتشار شائعات عديدة في السنوات الأخيرة يوحي بأن المسألة لا تتعلق بالوعي فقط، ولن تعالج بتعزيز حملات التوعية بطرق انتقال أمراض مثل الإيدز فقط. فرغم قيمة التوعية وضرورتها فإن من الضروري المبادأة في التصدي لموضوع الشائعة منذ البداية أيضاً كي لا يؤدي تراكمها وانتشارها مثل النار في الهشيم إلى إضفاء مزيد من الصدقية عليها بمرور الوقت. سيكولوجية الشائعات تشير إلى انتفاء الفوارق الثقافية بين المتلقين عند تداول الشائعة والتعاطي معها في أحيان كثيرة، فالشائعة تمتلك مقومات إطلاق موجات أو شحنات الخوف الفطري الكامن في النفس البشرية بدليل أن معدلات انتشار الشائعات تتناسب طردياً مع التقدم في تكنولوجيا الاتصال، ما يعني سقوط رهانات الكثير من الخبراء الذين كانوا يعتقدون أن انتشار وسائل الاتصال والتقدم في تكنولوجيا المعلومات سيؤدي إلى تراجع الشائعات، بل إن اللافت للنظر أن الشائعة استفادت من وسائل الاتصال مثلما يحدث في تداول الشائعات داخل أسواق المال وغير ذلك عبر الرسائل الإلكترونية والهاتف المحمول بحيث يمكن لشائعة أن تحدث انهياراً أو على الأقل تراجعاً كبيراً في أداء البورصات! وبالطبع لا يمكن اتهام جميع المتعاملين في أسواق المال بالجهل وقلة الوعي أو القول إن نشر الوعي يهيئ للقضاء على الشائعات داخل البورصات. والجانب الأخطر مما سبق أن هناك شواهد عدة تشير إلى تحول "الإعلام" في بعض الأحيان إلى مربع "الشائعة" بمعنى أن الإعلام يتخلى عن دوره الحقيقي ليتداول وقائع وأحداثاً أقرب إلى الشائعات منها إلى الأخبار، وهناك انهيار الحدود الفاصلة أيضاً بين فنون حديثة مثل "الإعلان" و"الدعاية" من ناحية، والشائعات من ناحية ثانية بحيث زالت المسافات وأصبح "الإعلان" في بعض الأحوال نوعاً من الشائعات المقننة وكذلك تحوّلت فنون "الدعاية" إلى ممارسات لنشر الشائعات التي يمكن أن تندرج ضمن مفهوم "الشائعة". الشائعات باتت أيضاً سلاحاً قذراً في حرب "التنافس التجاري" بين الشركات وأحياناً الدول للإضرار اقتصادياً بالمنافسين ضمن الصراع على نصيب من كعكة "التجارة الدولية" في سلعة ما، بحيث تراجعت الأهداف التقليدية التي سبق أن رصدها علماء النفس منذ عشرات السنين، باعتبار أن الشائعة تتطور بتطور المجتمعات أيضاً، وتستفيد كما ذكرنا مما يحدث حولها، ويوظفها الكثيرون في تحقيق أهدافهم. مواجهة الشائعات تتطلب تصدياً إعلامياً جدياً وبدرجة عالية من الشفافية منذ بداية رصدها وقبل أن تُضفى عليها هالات من الصدقية المجتمعية جرّاء حجم التداول والانتشار، وقبل هذا وذاك تكريس التفكير النقدي لدى أجيالنا الجديدة بحيث يصبح من الصعب تمرير شائعات تفتقر إلى مقومات الدقة وتتنافر مع أبسط قواعد العلم وتتجاهل حقائق الأمور، وهذا لن يتأتى سوى عبر مناهج التعليم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عن نشرة "أخبار الساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.