تمر الدولة في العراق بمرحلة حرجة من تاريخ تطورها السياسي، فإما التقسيم وإما التدويل وإما الحرب الأهلية، ولكن ما يحدث في العراق الآن له قصة تمتد جذورها عبر التاريخ الحديث والمعاصر؛ تبدأ خلال حكم صدام حسين ونظامه، وبالطبع لن تكون نهاية أحداثها تحت حكم طائفية نوري المالكي. كانت إطاحة صدام حسين ونظامه بمنزلة النهاية لحكم وحشي ظل يروج كثيراً لتلك الممارسات بزعم أنها تستهدف الحفاظ على ترابط ووحدة أراضي دولة العراق، رغم أنها كانت تزرع بذور الفرقة، لذلك فقد أثارت إطاحة صدام حسين عدداً من التحديات التي ربما تسفر عن نتائج لم يسبق لدولة العراق أن عايشتها. تمسك صدام حسين بأسلوب الدولة البوليسية لتكريس حكم الفرد، شأن العديد من الدول العربية الأخرى، وهذا الحكم يُكسب الشعوب مجموعة من السمات والخصائص، ليس أقلها عدم قبول الرأي الآخر، ولا أقصاها الانطواء على الذات وانتشار الخوف من كل شيء، هذا الخوف الذي يكبت مشاعر الكراهية ويزيد من الحقد الدفين بين كل الطوائف وكل عناصر تركيبة المجتمع، ومن ثم تفقد انتماءها إلى الوطن وتضيع هويتها، ويبعث في النفوس شيئاً من روح الانتقام، والتنكر للمواطنة وفقد الرابط بالهوية. ومن الغريب أنه بعد عقود من الزمن استمرأ الشعب العراقي هذا الوضع واعتبره شيئاً طبيعياً، شأن العديد من الشعوب العربية التي ترزح تحت وطأة الديكتاتورية، بل تزداد قناعتها بأنه أفضل أسلوب للحكم، وتؤمن بضرورة استمراره للحفاظ على مصالح الوطن وتماسك أوصاله. لقد أصبحت الدولة في العراق تعاني اضطرابات سياسية يعود جانب منها إلى وجود تيارات قومية وطائفية متعددة لكل منها أجندته المتباينة، وبعد أن كان من المعتاد سيطرة الأقلية السُّنية على مقاليد السلطة على حساب التجمعات الشيعية والكردية التي أرغمت على تحمل قهر السلطة المركزية في بغداد، بات الأمر يجعل الجميع يسعون حثيثاً لتحمل سلطة حكم أنفسهم والانفصال عما كان يُسمَّى وطناً. استطاع صدام حسين وزبانيته إذكاء روح العصبية، وفرض حكم الأقلية على الأكثرية، ولم يهتم كثيراً بحاجات ومطالب شعبه، بل ركز على وسائل توطيد حكمه، وفرض إرادته على ثروات العراق، واستغلالها في محاربة الدول المجاورة، وبعد فشله في "أم المعارك" أمام الجمهورية الإسلامية الإيرانية وفقده لنحو مليون عراقي من خيرة شبابه، نجح في غزو الكويت في "جدة المعارك" التي لم تصمد كثيراً أمام "خالة الحروب" التي أدارتها قوات التحالف برئاسة أميركا ليظل العراق تحت حصار أعاده إلى ظروف القرون الوسطى. وقد يرى البعض أن ما تعرض له الشعب العراقي وعاناه من اضطهاد وحكم ظالم سيؤدي بعد التحرير إلى لمِّ الشمل، ويتكاتف الشعب العراقي ويسعى إلى بناء دولة جديدة ويدرك أهمية علاج الآثار المترتبة على حكم الطغاة، إلا أنه بعد زوال الطاغية ونظامه الديكتاتوري في "فضيحة عمة المعارك"، سقط العراق في فخ الطائفية والتطهير الطائفي وربما ينقسم إلى دويلات، بعد أن تكالبت عليه عوامل كثيرة داخلية وخارجية. من أهم العوامل الداخلية نجاح الشيعة في عرض أنفسهم كبديل يمكن الاعتماد عليه في حكم العراق، فكان نوري المالكي إفرازاً طبيعياً لهذا العرض، فاعتمد على المحاصصة في توزيع المناصب، وبناء مرتكزات الحكم، واعتمد الطائفية طريقاً لتوطيد أركان حكمه وكسب ثقة المحتل في قدرته على فرض إرادته على أركان الدولة، وفي سبيل ذلك تمسك بدستور ضعيف لا يستند إلى شرعية وطنية، واعتبر المرجعية الشيعية أساس الملك، ففتاوى السيستاني نافذة سياسياً وعقائدياً. وفي الوقت ذاته استطاعت المليشيات الشيعية أن تقوم بعمليات تطهير طائفي، وسعت لإفراغ العراق من الأقليات، وإجبارها على الرحيل والهجرة الداخلية والخارجية، أما الأكراد فقد انغلقوا على أنفسهم وعاشوا أسرى داخل الأسوار السياسية والأطر الاجتماعية والثقافية ولا يهمهم سوى مصالحهم. وإذا كان شيعة العراق قد أصبحت لهم أجندتهم في الاستيلاء المطلق على حكم البلاد، فإن الأكراد من جانبهم لن يضحُّوا بأي مكتسبات سياسية حصلوا عليها، كما أنه من المفترض ألا يتوقع أحد أن يُقْدم الأكراد على التضحية بما وصلوا إليه، لذا فإن المنظور الإثني والقومي الفريد الذي يظهره الأكراد يعني في نهاية المطاف أن الحكومات المركزية المتعاقبة في بغداد برهنت على إخفاقها في إدماج وتذويب الأكراد داخل كيان الدولة العراقية، وبالتالي فإن إدارة الأكراد لشؤونهم الذاتية لأكثر من عقد تمثل في حد ذاتها تحدياً مهماً أمام الحكومة المؤقتة في العراق. أما العوامل الخارجية فزادت المعادلة الطائفية في العراق تعقيداً ودفعتها إلى أتون الحرب الأهلية، فإيران جاءت بكل قواها وقدراتها العلنية مثل الحرس الثوري وفيلق القدس التابع له المسؤول عن إدارة العمليات في الخارج ودفعها لآلاف من الإيرانيين ليتجنسوا في العراق بعد أن استولت على السجلات المدنية العراقية. ولم تبخل إيران في استخدام أجهزة مخابراتها لبث الفرقة بين طوائف الشعب العراقي، لا لشيء سوى أن تضمن إيران وجود حكم موالٍ لها في بغداد. وكان للغباء الأميركي الدور الرئيسي في تأجيج الحرب الأهلية وتفكيك الدولة في العراق، فبعد أن تحقق هدف تغيير النظام بقيت مرحلة العمليات لما بعد الحرب التي أثبتت وجود ارتباك ومتاعب لصناع السياسة الأميركية تعكس جهلهم بالهويات الطائفية والعرقية والعشائرية الموجودة بالعراق، وجميعها عوامل شكلت عائقاً مهماً للجهود الأميركية لإعادة رسم الخريطة السياسية للعراق، فالغباء الأميركي خطط للإطاحة بصدام حسين ونظامه البعثي، ولكنه افتقر إلى نظرة سياسية واقعية تحدد بدقة ماذا سيحل محل النظام البائد. والشيء الذي لم تلتفت إليه الإدارة الأميركية برئاسة بوش الصغير أن العراقيين لم يكونوا مهيئين لقبول الاحتلال الأميركي بدلاً من طاغية من بني جلدتهم ونشأ بينهم. كما أن بوش الصغير وزمرته أخطأوا في تقديرهم وحكمهم بافتراض أن شيعة العراق سوف يحتضنون الحل الديمقراطي الذي جاء به الأميركيون إلى أراضيهم، وهنا تبرز المفارقة بأن الإيرانيين تصاعدت لديهم الآمال بقيام نظام إسلامي في العراق يحاكي مثيله الإيراني ويناهض الطموحات الأميركية في المنطقة. وقادت التصرفات الأميركية في العراق إلى فتح صندوق المخاطر والغموض الذي يهدد بأن يبتلع الدولة العراقية، وزاد سلوك الولايات المتحدة بصورة كبيرة من مخاطر تعرض العراق لنهاية مأساوية. ثم كانت اللامبالاة العربية بما يحدث في العراق السبب الإضافي في انحراف العراق عن مساره الطبيعي، حيث لم تتدخل الدول العربية في الوقت المناسب للحفاظ على الهوية العراقية وبث روح المواطنة في الشعب العراقي بزعم أن الولايات المتحدة هي المسؤولة عما آل إليه العراق وعليها إصلاحه، وتناست أن القوة التي قطعت آلاف الأميال لتحرر العراق لا تدري عن ثقافته وتاريخه وظروفه وتركيبته العقائدية والعرقية شيئاً. أما تنظيمات الإرهاب التي شاركت في إشعال الفتنة الطائفية من جانب، وتعقيد الأوضاع الداخلية في العراق من جانب آخر، فإنها تبجّحت وأعلنت قيام الإمارة الإسلامية في العراق، وكأنه لا يوجد ما نطلق عليه شعب العراق. لذلك لن يتم التوصل إلى حل مناسب لـ"العقدة العراقية" قبل التوصل إلى توصيف محدد ودقيق للوضع الراهن في العراق، ويتلخص في: وجود حكم طائفي برئاسة المالكي يدفع في اتجاه مزيد من التطهير الطائفي، ونفوذ فارسي شيعي يقوض أركان الدولة ويفكك أوصالها تحقيقاً لمصالحه الخاصة وأهدافه بعيدة المدى، واحتلال يفتقد أي شرعية ويشجع على الاستقطاب الطائفي والعرقي، ودول عربية لم تتخلَّ عن سلبيتها تجاه ما حدث ويحدث في العراق، لذلك فإن النتيجة تفكك وانقسام عرى الدولة، ومزيد من التعقيد الأمني والسياسي... إنها حلقة مفرغة يكمن حلها بيد العراقيين أنفسهم إذا تخلوا عن الطائفية والعرقية وارتكنوا إلى المواطنة، وتمسكوا بالهوية العراقية.