خلال زيارتها الشرق أوسطية الأخيرة، دعت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، إلى ضرورة توفر "أفق سياسي" ما، من أجل إحداث أي طفرة ذات معنى في عملية السلام الإسرائيلي الفلسطيني المتعثرة. وما رمت "رايس" للإشارة إليه بذلك القول هو أنه ليس في وسع "العملية" بحد ذاتها إحراز أي تقدم ملموس على الأرض، وأنه لابد من التصدي لقضايا شائكة بعينها، مثل الوضع النهائي للاجئين الفلسطينيين، وترسيم الحدود النهائية للحدود الإسرائيلية- الفلسطينية، ووضع مدينة القدس. غير أن من المؤسف أنه وطالما بقيت حركة "حماس" -باعتبارها شريكاً أساسياً في حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية الجديدة- على رفضها الاعتراف بحق إسرائيل في البقاء، بينما يعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت، لقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ولكن دون أن يخوض معه في أية مفاوضات من هذا النوع، فإنه لا مناص من أن تواصل الأوضاع الحالية تدهورها. وهناك ثلاث حقائق واقعية على الأرض، هي التي تسهم في استمرار هذا التدهور، بل وتشير إلى احتمال تجدد دورة جديدة من القتال والمواجهة بين تل أبيب، وجيرانها العرب في كل من فلسطين ولبنان. أولاها: أن القرار الدولي رقم 1701 الذي وضع حداً للحرب الإسرائيلية اللبنانية في صيف عام 2006، قد نص على توسيع مهمة الأمم المتحدة لحفظ السلام في لبنان، بل نص تحديداً على إنشاء دوريات عسكرية لبنانية دولية مشتركة، لمنع تسرب الأسلحة إلى مليشيات "حزب الله". لكن وطالما تواصلت عملية إعادة تسليح "حزب الله"، بينما يواصل قادته رفضهم لأي مسعى لتفكيك مليشياته، فإنه ليس أمام إسرائيل إلا أن تواصل هي الأخرى تحضير الأرض لمواجهة جديدة مع خصمها اللبناني اللدود. الحقيقة الثانية أن الانسحاب الإسرائيلي من غزة في عام 2005، لم يسفر عن استقرار هناك. بل على نقيض ذلك تماماً فقد زادت حركة "حماس" حجم حضورها العسكري، بينما تواصل تزويد قواتها وتسليحها بشتى السبل، بما في ذلك تهريب الأسلحة عبر الأنفاق المحفورة على امتداد الخط الحدودي الفاصل بين مصر وقطاع غزة. هذا وقد واجهت الحكومة المصرية ضغوطاً كبيرة في إغلاق تلك الأنفاق، إلا أن تهريب الأسلحة قد تواصل براً وبحراً إلى "حماس"، إلى جانب أنشطة أسواق الأسلحة السوداء خارج إسرائيل. وإذا أضفنا إلى كل ذلك، مواصلة الفصائل الفلسطينية المتطرفة الأخرى، مثل منظمة "الجهاد" الإسلامي إطلاقها الصواريخ العشوائية على إسرائيل، فإن ذلك لا يعني شيئاً آخر سوى شن هذه الأخيرة عملية عسكرية واسعة النطاق ضد القطاع في نهاية الأمر. وبذلك نصل إلى الحقيقة الثالثة المتصلة باستمرار إسرائيل في إقامة وتوسيع مستوطناتها في أراضي الضفة الغربية، خاصة في المناطق المحيطة بمدينة القدس الشرقية، وتكثيف جهودها الرامية إلى محاصرة المناطق والأجزاء الفلسطينية من المدينة. وهذه الممارسات، مضافة إليها خطط إنشاء شبكة طرق إسرائيلية تربط بين مستوطنات الضفة الغربية والقدس الغربية والأراضي الإسرائيلية، فإنه لا يتوقع منها سوى وضع المزيد من المصاعب والعراقيل أمام إقامة الدولة الفلسطينية من الأساس، لأنه لم يبق للفلسطينيين بسببها، سوى فتات من الجيوب والأراضي الصغيرة الضيقة المبعثرة، التي تحول دون نشأة دولة فلسطينية موحدة سياسياً وجغرافياً. وعليه فإن أي تفاوض لإحلال السلام النهائي هناك، يتطلب تعديلاً في "الحدود" المشتركة بين إسرائيل وفلسطين، مع العلم بأن أي تعديلات في هذه "الحدود" لن تكون مقبولة لا للفلسطينيين ولا للرأي العام العربي، إلا إذا ما سحبت إسرائيل الجزء الغالب من مستوطنيها المقيمين في أراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية. لكن ومع صعوبة قبول أي من الحكومات الإسرائيلية بشروط كهذه، فإن المرجح أن تستمر الأعمال الاستيطانية التوسعية هذه، مما يزيد نيران النزاع ضراوة والتهاباً. ولكل هذه المصاعب والعقبات مجتمعة، فإن أي مبادرات سلام وتفاوض بين الطرفين، سواء كان مصدرها الرياض أم واشنطن، فإنها لن تجد لها سوى أذن إسرائيلية فلسطينية صماء، طالما بقيت "حقائق الأرض" هذه تراوح مكانها، وتواصل تقويضها لأي حلم اتفاق بين الطرفين.