ما من دولة متقدمة أو نامية أو متخلفة من دول العالم إلا ونسمع عن ارتفاع أسعار العقار فيها. وفي العديد من الدول العربية ترتفع أسعار المنازل والأراضي والشقق والإيجارات بسرعة رهيبة ودون سبب واضح معقول، ولاشك أن هذا الارتفاع يدخل البهجة إلى قلوب بعض الملاك، ومنهم بالطبع بعض متوسطي الحال ممن صاروا بين يوم وليلة يمتلكون عقاراً بلغ سعره أرقاماً فلكية، أو كان منزل الواحد منهم في أطراف المدينة، فصار بعد الامتداد العمراني في مركز المدينة أو ملاصقاً لمنطقة تجارية يتصارع كبار الملاك على البيع والشراء فيها. وقد نفهم دوافع هذا الغلاء في بعض الدول الخليجية صغيرة المساحة مثلاً، ولكن كيف نفهم هذا الارتفاع الهائل في دول مثل مصر والأردن والمملكة العربية السعودية بل وحتى العراق؟! ولماذا يتكدس الكويتيون والمصريون مثلاً على 6 أو 7% من أراضي بلادهم، وترتفع الأسعار عاماً بعد عام، ولكن كم من الإحباط يعانيه الشاب المقبل على الزواج وهو يرى نفسه ملزماً بدفع هذه التكاليف الهائلة لإيجار الشقة أو لبيت العمر؟ عندما ذهبت إلى الولايات المتحدة للدراسة، أثار انتباهي أن كل المنازل أو معظمها، مبنية من الخشب، حتى تكاد لا تجد أثراً للحجارة والحديد والخرسانة المسلحة، التي هي من "أركان" البناء والمعمار في بلداننا الفقيرة والغنية منها على حد سواء. والسبب هو البحث عن المنازل المعتدلة ورخيصة السعر، كي يسهل على الإنسان الأميركي دفع أقساط امتلاكها، فمعظم الأميركان مثل الكثيرين في دول الخليج والعالم العربي، يفضلون الفيلا والمنزل وامتلاك الأرض والبناء على السكن في الشقة! وهناك بنية تحتية راسخة من التسهيلات والقروض وشركات التأمين والخدمات المختلفة التي تسهل للمواطن شراء المنزل والتأمين عليه وبخاصة ضد الحريق والعواصف والفيضانات وغيرها، بمبلغ معقول. بل إن التأمين على السيارة أكثر تكلفة من التأمين على المنزل في الكثير من الأحيان. وقد تضمن لك شركة التأمين سلامة المنزل وسعره إزاء الكوارث. من غرائب العالم العربي أننا نسمع منذ سنوات عن "أزمة السكن" والمشاريع العقارية ودخول الدول وكذلك القطاع الخاص إلى هذا المجال، ولكن لا نجد إلا انفراجاً محدوداً في "هذا المجال"! فأين تذهب الأموال؟ وأين تختفي الأراضي ومواقع البناء؟ أعجبت بتقرير نشرته إحدى الصحف مؤخراً حول هذه الظاهرة بالتحديد، وجاء فيه: "من دبي إلى الساحل المصري الشمالي، ومن المنطقة الشرقية في السعودية إلى جبال أطلس المغربية، تنتشر آلاف المشاريع المعمارية الفاخرة التي تتوجه إلى نخبة المستثمرين من الطبقات الثرية التي لا تمثل سوى نسبة خمسة في المئة من مجموع السوق، بعض هذه المشاريع تتوجه إلى المستثمر الأجنبي وبعضها الآخر يوفر التقسيط بالقروض المصرفية، ولكن أيضاً للأثرياء. هذا في الوقت الذي يعاني فيه المستثمر الصغير والمتوسط من مشكلات متعددة تظهر ملامحها في مشاكل معروفة مثل غلاء الإيجارات وعدم وجود عقارات مناسبة للشراء في القطاعات المتوسطة وقطاعات المدخل. وبلغ من هذه المشكلة وصولها إلى حد الأزمة في بعض المدن مثل دبي، التي لا يستطيع معظم العاملين فيها، حتى في مجالات عالية الاحتراف، العثور على شقة أو عقارات بإيجارات مناسبة مما يضطرهم إلى السكن في ضواحٍ بعيدة". (الشرق الأوسط، 24/2/2007). وفي المملكة العربية السعودية، أكدت دراسة عقارية حاجة تلك الدولة إلى تأمين 870 ألف وحدة سكنية "عاجلة"! أي المطلوب أن تؤمن فوراً، لسد الفجوة السكنية الحاصلة منذ أعوام، والوصول إلى نقطة البداية لتحقيق متطلبات المستقبل، مع الاستمرار في توفير ما بين 145 إلى 165 ألف وحدة سكنية سنوياً. فالدراسات تشير إلى أن عدد سكان المملكة سيصل في عام 2020 إلى 35 مليون نسمة، 30 مليون منهم سعوديون، وبالتالي فإن الطلب على السكن سيتضاعف. فالموجودون في سوق العمل حالياً هم فقط 3.5 مليون سعودي، في حين أن 68 في المئة من السعوديين هم تحت سن الـ25 عاماً. وتقول التقديرات إن المشكلة ستبرز بقوة في منطقتي الرياض وجدة، حيث إن عدم توافر الآليات التي تسمح بالرهن والتقسيط تجعل 70% من الوحدات السكنية في المدينتين مؤجرة وليست مملوكة. (الشرق الأوسط، 6/12/2006). يحق لكل منا أن يتساءل إذن: لماذا تتوافر في بلداننا كل هذه المساحات الشاسعة وكل هذه الأموال و"الفوائض"، وكل هذه المليارات من الدولارات بيد المستثمرين الخليجيين والمصريين واللبنانيين والأردنيين وأثرياء شمال أفريقيا، بالإضافة إلى ما بيد الدول والحكومات من إمكانيات، وتتعالى في الوقت نفسه شكوى الطبقة المتوسطة والفقيرة من مشاكل الإسكان وغلاء الأراضي؟ ولماذا لا يزال "بيت العُمر"، كما تقول صحيفة كويتية "حلماً بالليل... وهماً بالنهار"؟ العقاريون الكويتيون يقولون إن ارتفاع أسعار الأراضي خلال الثلاثين سنة الأخيرة، كان سببه أن المساحة المتاحة للسكن في ذلك الوقت قليلة مقارنة بنمو السكان، وبعدها أخذت الحكومة الكويتية تشجع على الإنجاب وأصبح عدد أفراد الأسرة كبيراً. ثم أخذ الناس يضخون أموالهم في القطاع كنوع مضمون من الاستثمار، فارتفعت أسعار الأراضي بشكل جنوني وبخاصة أن قنوات الاستثمار الأخرى غير متوفرة. ومن الأسباب التي يوردها كذلك أحد المحللين للظاهرة، أن الكويتيين يرغبون في أن يكون مسكنهم مستقلاً عن الآخرين، فلا يقبلون بالسكن في الشقق، ما أدى إلى زيادة الطلب على المساحات المسطحة. ولا علاج اليوم للظاهرة كما يقول د. عادل الوقيان، من كلية العلوم الإدارية، في شرحه للمأزق العقاري، "والسبب هو أن الكثير من الشركات الكبيرة معظم أصولها في العقار، وبالتالي لن ترضى هذه الشركات أن يخرج حل عقاري يخفض من قيمة هذه الأصول، والآن أضحى الحل أصعب من ذي قبل وأصبح الوضع شائكاً". (الوطن، 25/2/2007). ولا تتحمل الحكومات والشركات دائماً وزر الديون المرهقة التي تثقل كاهل الكثيرين من الشباب في الكويت وربما في دول عديدة أخرى، فالبعض يصر -مهما كانت تكلفة الأرض- أن يسكن على مقربة من أهله ويرفض قبول المناطق الجديدة. وهناك من ينفق ببذخ على البناء والديكور مهما كان مستوى دخله. وتقول مصممة الديكور "معصومة الحداد": "أغلب البيوت الكويتية حالياً فخمة حتى لو كان دخل الشخص عادياً، وللعلم فإن ذوي الدخل المحدود يبحثون عن الفخامة وليس عن البساطة". وفي الدول العربية التي تعاني من الازدحام السكاني في العاصمة مثل مصر، تبرز مشكلة المباني والأحياء المرتجلة أو "العشوائيات"، وهي مبانٍ ومناطق سكنية تظهر وتمتد وتنتشر وتكتظ بالسكان، دون تخطيط! ويتم شراء وبيع الأراضي فيها بعقود ابتدائية دون تسجيل في الشهر العقاري. وتعترف الحكومة بهذه العقود إذا حصلت على حكم قضائي بصحة البيع والنفاذ، وبهذا الحكم يستطيع الساكن أو المالك توصيل الماء والكهرباء إلى المسكن بصورة قانونية. وتذكر د. ضحى عبدالغفار، أستاذة علم الاجتماع، في دراسة لها، أن مصر تضم 434 منطقة عشوائية، وتختص القاهرة وحدها بـ88 منطقة يسكنها حوالى 50% من سكان القاهرة البالغ تعدادهم بين 17 إلى 19 مليون نسمة بحسب إحصائيات عام 2004- 2005. وتقول الحكومة المصرية إن هذه المناطق تحتاج إلى 3485 مليون جنيه مصري، أو حوالى ثلاثة مليارات ونصف المليار، لإدخال المرافق الأساسية فقط إليها. ما أثر هذا الارتفاع الحاد لأسعار العقار في العالم العربي على الاستثمار في مجالات التنمية الأخرى؟ ما الآثار النفسية التي يتركها في نفوس الأجيال الجديدة التي تجد نفسها غارقة في الديون العقارية والسكنية في بداية حياتها الاجتماعية؟ من سيفكر في تطوير "البنية التحتية الصناعية"، ما دام العقار يعطي هذا المردود الضخم المريح... دون تحريك ساكن!