أثناء تطوافي في منطقة شمالي تنزانيا الأسبوع الماضي، عبرت سيارتنا بلدة "كاراتو" الصغيرة، وإذا بنا نقف قبالة حقل ممتد مفتوح على الأفق، وقد تزركش بالألوان الفاقعة الزاهية، حتى بدا من بعيد وكأن شخصاً ما قد رسم لوحة زيتية بديعة لقوس قزح من نوع خاص، مؤلف من نحو ثلاثين لوناً... منثورة هكذا في الطبيعة البكر! لكن ما أن اقتربت السيارة من المكان، حتى اتضح أن تلك اللوحة لم تكن شيئاً آخر سوى سوق بلدة "كاراتو" للأقمشة. وهناك يطرح التجار البطانيات على الأرض، ثم ينثرون فوقها القمصان والبناطيل والفساتين المتعددة الألوان، ومعظمها من الملابس المستعملة، مما يستورده هؤلاء التجار من البلدان الأوروبية. وبين هؤلاء كان يتدلى من الجيب الخلفي لأحدهم شريط قياس الملابس، وهو يصيح بين الحاضرين: ألف شلن لهذا البنطال... إنه شبه مجاني تقريباً. وغالباً ما يلقى هذا النوع من فنون الدعاية والترويج من يستجيب له، إذ تدافع كثير من النساء والرجال ممن يرتدون ملابس تنزانية زاهية الألوان، نحو أكوام الملابس وشرعوا في قياس هذا القميص أو ذاك البنطال على أجسامهم ليجربوا ما إذا كان ملائماً لهم أم لا! على أن مثل هذه المشاهد، تذكر المرء بأن القارة السمراء ليست كلها حقلاً للمأساة، ولا هي بالقارة الناهضة في ذات الوقت. بل الصحيح أنها قارة متعددة وتكافح من أجل شق طريقها إلى الاقتصاد العالمي الذي يحمل التناقض ذاته. والصحيح أيضاً أن أفريقيا بوجه عام، تقع في تلك المنطقة الوسيطة بين متناقضات العولمة، ما يقربها كثيراً من سوق بلدة "كاراتو". وأعنى ذلك السوق المنفلت الخارج عن طقوس الرسمية والنظام، الفريد من نوعه كشكل من أشكال النظام الرأسمالي. وما أشد حاجتنا لتطوير هذا النمط الشعبي من الرأسمالية إلى شركات رسمية منظمة، لها القدرة على النمو والازدهار، حتى في ظل سوء وفساد الحكم. والحقيقة أن أفريقيا تفتقر إلى كثير من الأشياء، غير أنه ما من شيء يبز حاجتها إلى رأسماليين قادرين على إنشاء وإدارة الشركات القانونية. أقصد أن أفريقيا تحتاج إلى مزيد من الشخصيات على غرار "بيل جيتس"، وإلى القليل من المؤسسات. ذلك أن الشعوب لا تفلت من سجن فقرها إلا حين ينشئ الناس الاستثمارات والشركات الصغيرة القادرة على توظيف الجيران وخلق فرص جديدة للعمالة. لكن ما أن تسمع عن تدفقات رؤوس الأموال إلى أفريقيا، حتى تدرك أن غالبيتها تأتي من الدائنين الكبار مثل "البنك الدولي" الذي يتسم بصرامة معياريته وكونه يمول المشروعات الكبيرة فقط. وقد تأتي رؤوس الأموال تلك من صغار الممولين الذين ربما يمنحون مبلغ 50 دولاراً لا أكثر لإحدى النساء لمساعدتها على شراء ماكينة خياطة أو ما شابه. ورغم ما لهذا التمويل من دور يؤديه في مجال التنمية الاجتماعية الاقتصادية في أفريقيا، فإن معظم الناس يتهربون من ضغوط ومسؤولية إدارة الأعمال، ويفضلون عليها الوظيفة الآمنة المستقرة والمزدهرة، التي يوفرها لهم المبتكرون والرأسماليون الذين يتحملون مسؤولية مخاطرتهم الرأسمالية. ولعل الهند تقدم أنصع دليل على هذا. ويمكن القول بعبارة أخرى، إن أشد ما تحتاجه أفريقيا هو رأسمال "صبور" من شأنه حث رأسمالييها المحتملين وتسريع ظهورهم. ومما يحسب لهذا الرأسمال الصبور، كل النظام والانضباط اللذين يتسم بهما رأس المال المغامر الذي يطالب بأن يكون له عائد ومردود، وهو ما يقرر شدة تشغليه وتداوله. ويظل الاختلاف الوحيد، أن رأس المال الصبور يطالب بتحقيق عائدات تتراوح نسبتها بين 5 إلى 10 في المئة، خلافاً لنسبة الـ35 في المئة التي يتطلع إليها الرأسماليون المغامرون عادة، فضلاً عن طول مدة سداده. ولعل شركة "Advanced Bio-Extracts" الكينية -شركة المستخلصات البيولوجية المتقدمة- التي يرأسها "باتريك هينفري"، هي خير نموذج لما يمكن أن يحدث في أفريقيا، عندما يتم الدمج بين رأس المال الصبور والموهبة والابتكار. هذا ويعمل هينفري وشركاؤه على توظيف مهارات وخبرات الفلاحين والعلماء الأفارقة والبيض على حد سواء، في بناء الشركة الأفريقية الأولى من نوعها في حصاد نبات "الأرتماسيا" وتحويله إلى عقار "الأرتميسينين" الطبي، وهو عبارة عن مستخلص نباتي يدخل في المركبات الرئيسية لجيل جديد من أدوية علاج الملاريا الناجع وقليل التكلفة. وتعرف هذه العقاقير الطبية الجديدة، تحت مسمى صيدلاني واحد مشترك هو "علاجات مركّبات الأرتميسينين". هذا ولا يزال وباء الملاريا من أكثر الأوبئة فتكاً بالبشر في أفريقيا، إذ يقتل فيها ما يقارب المليون شخص سنوياً، أي أكثر مما يفعل الإيدز وفيروس HIV المسبب له. وفي مصنعها الدوائي الواقع خارج العاصمة الكينية نيروبي، لا تكتفي شركة "Advanced Bio-Extracts" بتوفير المواد الخام النباتية المطلوبة لتطوير العقار الطبي الجديد فحسب، وإنما تعاقدت مع 7 آلاف من المزارعين -معظمهم من أصحاب المزارع الصغيرة- بهدف زراعة محصول "الأرتماسيا" في كل من كينيا وتنزانيا وأوغندا. يشار إلى أن ذلك المحصول بدأ يدر على المزارعين عائداً مالياً يعادل أربعة أمثال ما يدره عليهم محصول الذرة الشامية. وعلى حد تعبير "هينفري"، فقد "بدأنا بتحويل محصول زراعي لم يسبق له مطلقاً أن تحول إلى منتج تجاري". وكان على مؤسسي الشركة ألا يكتفوا بالمساهمة بكل ما لهم من أصول ورؤوس أموال فحسب، وإنما أن يعثروا على مستثمرين، على شاكلة شركة "نوفارتيس" السويسرية العملاقة لصنع العقاقير الطبية، وكذلك "صندوق أكيومين" الاستثماري وغير الربحي، ومقره في أميركا، حتى يتسنى لهم تأمين رأسمال صبور وغير معرّض للمخاطر. وذلك هو ما تحتاجه أفريقيا بوجه عام. ـــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ـــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"