ما أن تهب الرياح الباردة القارصة القادمة من صحراء سيبريا في كل فصل من فصول الشتاء على بكين، هذه العاصمة الصينية الأثرية، حتى تبدأ مجموعات كبيرة من الهُواة رحلتها إلى قنوات مياه وبحيرات بكين المتجمدة، لممارسة هواية التزحلق على الجليد. ولكن الجديد والمفاجئ في هذا العام، هو ارتفاع درجات الحرارة إلى مدى كسر الرقم القياسي المسجل لها على مدى 161 عاماً، ما أدى إلى ذوبان مبكر للجليد هنا، في شهر فبراير الماضي. وما أن بدأت الشابات الصينيات بارتداء التنانير القصيرة الزاهية في ذلك الشهر، بدلاً من ارتدائهن الملابس الشتوية الثقيلة عند خروجهن إلى الشوارع والطرقات العامة، حتى أصبح الصينيون في مواجهة واضحة لا تخفى مع ظاهرة الاحتباس الحراري المرتبطة بالتغير المناخي. وما أن يتجه المرء اليوم في أي ناحية من نواحي الصين، حتى يرى الآثار البيئية الواضحة لوحش الاقتصاد الصيني الكاسر. وقد كشفت رحلة قريبة لي، قمت بها إلى منطقة شمال غربي بكين، حيث تقع محافظة شانشي الغنية بحقول الفحم الحجري، عن منظر لا حد له من تداخل اللونين الأبيض والأسود، حيث قلما تشرق الشمس، بسبب التلوث الهوائي الناشئ عن محطات الفحم الحجري، التي تولد منها الطاقة الكهربائية وتدخل في صناعات الأسمنت والأسمدة. وبين هذا وذاك، أعلن علماء الطبقات الجليدية أن الطبقات المتجمدة في هضبة التبت، وهي التي ظلت تغذي أنهار "اليانجتسي" والنهر الأصفر وميكونج وغيرها من النظم المائية الآسيوية على امتداد ملايين السنين، قد بدأت تشهد ذوباناً سنوياً بلغ معدله السنوي 7 درجات مئوية. والمثير للقلق في هذه الإحصاءات، أن العلماء المذكورين قد حددوا جدول حياة هذه الأنهار بما لا يصل إلى العقدين من الزمان من الآن. وفي تقرير عام 2000 الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، ورد أن التلوث الهوائي قد بدأ يتسبب سلفاً في الوفيات المبكرة لنحو 400 ألف شخص سنوياً. وليس في هذا الرقم ما يثير دهشة أحد، إن علمنا أن في الصين وحدها، 16 من جملة 30 أسوأ مدينة عرفت بارتفاع معدلات التلوث الهوائي فيها على نطاق العالم كله. والشاهد أن الطبيعة في الصين باتت أمام خطر عظيم يتهددها، وأن الفحم الحجري يأتي في مقدمة مكامن هذا الخطر، بحكم كونه يمثل مصدراً لنسبة 69 في المئة من إجمالي الطاقة الرئيسية في الصين، بينما يمثل نسبة 52 في المئة من سد حاجتها للطاقة الكهربائية. ولذلك فإن الصين تستخدم منه سنوياً ما يقدر بنحو 2.2 مليار متر مكعب، وهو رقم يعلو على ما تستخدمه كل من الولايات المتحدة الأميركية والهند وروسيا مجتمعة. وبالنتيجة فإن انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري والتي تلوث الغلاف الجوي للصين، لهي أعلى نسبة مقارنة بنظيرتها في الولايات المتحدة الأميركية. وفي وقت ما خلال العام المقبل، ربما تتفوق الصين على أميركا في إجمالي انبعاثات هذه الغازات السامة، على الرغم من حقيقة أن معدل استهلاك الفرد المتوسط في الصين للطاقة، لا يزال يمثل خمساً واحداً مما يستهلكه نظيره الأميركي. ولكي تحقق الصين مستوى مكافئاً لمستوى معيشة الفرد الأميركي، فإن عليها أن تزيد معدل استهلاكها للفحم الحجري، بثلاثة أمثال ما هو عليه حجم الاستهلاك الحالي، ما يعني زيادة كبيرة جداً في انبعاثاتها من الملوثات الهوائية التقليدية إضافة إلى انبعاث غازات بيت الزجاج. ومن المؤكد أن الصين تحث الخطى في سبيل اللحاق بمستوى معيشة الفرد الأميركي. ولكي تحقق الصين متطلبات هذا النهم الذي لا يشبع للطاقة، فهي تشهد مولد محطة جديدة من محطات طاقة الفحم الحجري التقليدية، أسبوعياً. وليست الصين وحدها في هذا المجال، ذلك أن الولايات المتحدة نفسها تخطط لإنشاء ما يتراوح بين 100 إلى 160 محطة جديدة من محطات الفحم الحجري، يتوقع لكل منها أن تعمل لمدة أربعين عاماً على أقل تقدير، مع العلم أنه ليست من بينها محطة واحدة مزودة بتقنية حبس أو عزل غاز ثاني أكسيد الكربون. وبسبب الارتفاع الهائل الذي طرأ خلال السنوات الأخيرة الماضية، على أسعار النفط والغاز الطبيعي العالمي، فقد لجأت الدول الغنية بموارد الفحم الحجري، للاعتماد عليه في سد حاجتها المتصاعدة للطاقة، أكثر من أي وقت مضى. ومما لاشك فيه أن التداعيات الدولية لاستمرار هذا المنحى، دون تبني تقنيات طاقة الفحم الحجري "النظيفة"، ستكون كارثية وخطيرة جداً. وبالنسبة لأولئك الذين لا يحركهم ما يرونه من خطر بعيد على حياتهم، مصدره التغير المناخي، فإن عليهم أن يذكروا أن خطر الملوثات الهوائية التقليدية، إنما هو خطر قريب ومحدق بحياتهم على نحو مباشر. وهل هناك أدل على هذه الحقيقة من تقديرات إدارة حماية البيئة الصينية، للخسائر الاقتصادية الناجمة عن انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكبريت وحده، بأنها تكلف الناتج القومي الإجمالي السنوي، معدل خسارة يصل إلى 12 في المئة، مع العلم بأن هذا الرقم يكاد يكون مكافئاً لما تحققه الصين من معدل نمو اقتصادي سنوي مذهل؟! وسواء رضينا أم أبينا الاعتراف بهذه الحقيقة، فإن هذا الخطر البيئي المحدق بالبشرية كلها، هو ما يجمع الآن بين الصين والولايات المتحدة الأميركية. وما لم تتعاون الدولتان على خفض انبعاثاتهما من هذه الملوثات الهوائية، التقليدي منها وغير التقليدي، فإن البشرية ستتكبد خسارة فادحة، ربما تطال حياة الملايين منا. أورفيل شيل ــــــــــــــــــــــ مدير مركز العلاقات الأميركية- الصينية في الجمعية الآسيوية ــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"