نشرت إحدى صحف الإمارات المحلية في عددها الصادر يوم السبت 24/3/2007، مقالاً لأحد كتاب العمود لديها، ينتقد فيه المفكر المعروف برنارد لويس Bernard Lewis. لقد كان المقال مليئاً بالحديث عن تخفي هذا المفكر البريطاني الأصل، الأميركي الجنسية، خلف الموضوعية والتجرد في كل ما أسهم به في تقديم الحضارة العربية والإسلامية إلى الغرب، في الوقت الذي لم يكن فيه كذلك. ولا أعلم إذا ما كان كاتب المقال قد قرأ بالفعل فكر "برنارد لويس" بعمق وروية، ويأتي تشككي هذا من ورود اسم الكاتب الخطأ في عنوان المقال وفي متنه، فهو "برنارد لويس" وليس "بيرتراند لويس". المهم هو أن هذا ليس بموضوعنا الأساس، فمحدثكم من الذين قرأوا فكر "لويس" أكثر من مرة، آخرها في إطار البحث في وضع كتاب جديد تم إنجازه حول الإسلام والسياسة، وقد كانت قراءاتي لفكر "لويس" متأنية لأنها جاءت في إطار بحوث علمية متعمقة، سواء كان ذلك خلال الاستعداد لأطروحة الدكتوراه أو الأبحاث العلمية الأخرى. والأكثر أهمية هو أننا كعرب، متى سنستطيع أن ندرك أن الآخرين حين يكتبون أو يتحدثون عنا كعرب، لا يقومون بذلك من أجل تحقيق مصالحنا نحن، بل يكتبون لنصرة قضاياهم وتحقيق مصالحهم في إطارها الأعم والأشمل، فلماذا نتوقع من "لويس" أن يكون مختلفاً عن بني جلدته ويتحدث عن قضايا الحضارة العربية والإسلامية في صالحنا نحن؟ إن الحديث عن "برنارد لويس" في هذه المقالة، لا ينطلق من محاولة الدفاع عنه كشخص مجرد، بل من منطلق كونه مفكراً عالمياً كتب عن الحضارة العربية بعمق وبموضوعية طوال حياته، وبطريقة لم يتمكن أصحاب الحضارة أنفسهم من القيام بها، وقدمها للعالم أجمع في إطار فكري ناقد ولكنه نقد كان دائماً يهدف إلى الإصلاح وليس لمجرد النقد. وبهذه المناسبة تجدر الإشارة إلى أن "لويس" انتقد الحضارة الغربية أيضاً نقداً موضوعياً خاصة في شقها المسيحي اللاهوتي، وقارنها في كثير من الأحيان بالحضارة العربية مركزاً على أن الأخيرة كانت دائماً متفوقة، منذ أن نزلت الرسالة المحمدية السمحاء لهداية البشر في كل مكان، وأن الغرب استفاد كثيراً من التقاء حضارته وتفاعلها بالحضارة العربية الإسلامية. وعندما قام "لويس" بانتقاد الحضارة العربية المعاصرة، كانت منطلقاته تخرج دائماً من عدم قدرة أصحابها على فهمها واستيعابها في إطار مفاهيم حديثة خاصة بعالم اليوم، وعلى عدم قدرتهم الاستفادة مما أنتجته الحضارات الأخرى مؤخراً من طرق ووسائل حديثة، خاصة في شؤون السياسة والتنمية السياسية والاجتماعية ومفاهيم وأوعية وطرق ممارسة السياسة في العصر الحديث. فعندما يتحدث "لويس" مثلاً عن موضوعي الوطنية والقومية في العالم العربي، يشير إلى أن أول تباشير أنواع الولاء الجديدة في المنطقة العربية أخذت صيغ الوطنية وليس القومية، وقد تأثرت بمفاهيم الغرب حيث يتم تعريف الوطن والدولة والمواطنة على أنها الولاء الذي يكون المواطن مديناً به لوطنه، وعادة ما يقوم بدفع ضريبته إلى الحكومة عندما يحين الوقت. إن هذا الفهم الجديد الذي بدا أنه يقوي الادعاءات التي تطلقها الدولة بأنه من واجب مواطنيها أن يكونوا موالين لها، كان له في بداية الأمر وقع حسن سرعان ما اكتشفت الحكومات أنه مضر بها، لأن تحويل الولاء من شخص إلى فكرة مجردة يثير أمامها العديد من الإشكاليات. إن ما كتبه "لويس" عن تأخر بلاد العرب والمسلمين عن ركب الحضارة الحديثة، ليس أمراً مستغرباً ولا يشكل طرحاً غير واقعي يراد به المساس بحضارة العرب بطريقة مستترة فيها خبث ودهاء كما يُدعى. إن ما يقوله "لويس" بهذا الصدد واضح ومباشر ويحمل للأسف الشديد، من الحقيقة والمصداقية ما لا يريد العديدون منا كعرب إدراكه، وعندما يجدون أنفسهم غير قادرين على الرد أو على مواجهة الحقيقة القائمة، يلجأون إلى الماضي لكي يصوروه بأنه كان جميل. و"برنارد لويس" لا ينكر هذه الحقيقة، ولكن ما يبرزه دائماً هو أننا لسنا قادرين الآن وفي هذه المرحلة على مواصلة ما توصلت إليه حضارتنا وثقافتنا القديمة، وتوقفنا عند نقطة معينة جعلتنا فعلاً متأخرين عن غيرنا من الأمم الأخرى شرقاً وغرباً. إن ما قيل عن "برنارد لويس" في المقالة التي نشير إليها، لن يغير من حقيقة أن الرجل كان ولا يزال، جاداً وموضوعياً في طرحه حول الحضارة العربية المعاصرة، ينتقدها في هذه المرحلة ويصورها بأنها غير قادرة حتى الآن على اللحاق بركب الحضارة التي ينتمي إليها هو ويرغب في تمجيدها. ونحن لا نستطيع أن نلوم أي أجنبي على نصرة حضارته وثقافته وقضايا بني قومه، فهم لا يفكرون لنا ولقضايانا، بل يفكرون لبني جلدتهم ونصرة قضاياهم. وهذه الحقيقة إن بدت مُرة للبعض، إلا أنها هي الحقيقة. فيا أيها العرب الكرام المعاصرون في كل مكان، لا تطلبوا من الآخرين القيام بالمهام التي يجب أن تقوموا بها أنتم في طرح قضاياكم، أو أن يكونوا عرباً أكثر منكم، فهذا من رابع المستحيلات.