جاء المستشار القانوني للأمين العام للأمم المتحدة السيد "نيكولا ميشال" إلى بيروت في محاولة لإخراج موضوع المحكمة الخاصة بلبنان للتحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري والجرائم المتعلقة بها، وموضوع النظام الداخلي الخاص بها من دائرة الخلاف السياسي اللبناني ومحاولات منع إقرار المحكمة، التي تصر الأمم المتحدة على قيامها لاعتبارات عدة: أولاً لتنفيذ قرار دولي صادر بشأنها، وثانياً لتعزيز صدقية المنظمة الدولية، وثالثاً لإحقاق العدالة وكشف القتلة والمجرمين، ورابعاً لتكريس وجود رادع قانوني يضع حداً للاغتيال السياسي... فعدم إقرار المحكمة قد يعرض كل هذه العناوين للانهيار. ويعطي قوة للقتلة والإرهابيين وتعم الاستباحة في كل مكان. أراد السيد "ميشال" نقاشاً مع كل الأطراف كما قال، وكما فعل فوق الحسابات السياسية الداخلية، ولعبة مصالح الأطراف المختلفة، وفوق تقاطع أو تعارض لعبة المصالح الدولية على هذه الساحة أو تلك. أراد الاستماع إلى ملاحظات المعارضة خصوصاً على مشروع المحكمة ونظامها الداخلي. والبحث في مخارج وآليات لضمان إقرارها. قبل وصوله قال أركان المعارضة باستثناء فريق العماد ميشال عون: "لن نعطي ملاحظات. لم نعطِ ملاحظات لسوريا ولإيران وللسعودية، فلن نعطيها للسيد ميشال". ممثلو العماد عون قالوا: "سنناقش، ونحن مع المحكمة". وسبق أن قالوا إنهم مع المحكمة وتمرير مشروعها كما هو إذا اضطر الأمر فلا مشكلة في ذلك. رئيس الجمهورية التقى "ميشال"، بعد أن كان بعض قادة المعارضة وحلفاء سوريا شنوا هجوماً مسبقاً على "ميشال" متهمين إياه بأنه يتجاوز رئيس الجمهورية، ففوجئوا به في "بعبدا" يلتقي الرئيس ويستمع إلى ملاحظاته التي كان قد قدمها، وأخذها مجلس الوزراء في حينه بكل جدية، وناقشها وتوقف عند بعض النقاط بإسهاب. والرئيس كما هو معروف جزء من المعارضة. والموفد الروسي السيد "ألكسندر سلطانوف"، الذي كان في بيروت في الوقت ذاته والتقى الرئيس نبيه بري، والرئيس لحود. لم يسمع من الأول ملاحظات. لكنه سمع من الثاني ما لديه وقال إنه يعتبر ملاحظات لحود "جزءاً من ملاحظات المعارضة". إذاً "حزب الله" وحركة "أمل" وقوى سياسية أخرى، وشخصيات من هذه القوى وخارجها، تقيم القيامة ولا تقعدها على مشروع نظام المحكمة، وتهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور، وتعتبر إقرارها في لبنان بعد سنة من النقاش، وفي غياب وزراء الحزب والحركة الذين لم يلبوا الدعوة إلى جلسة لمجلس الوزراء لمناقشة المشروع واستقالوا، وإقرارها في مجلس الأمن تحت الفصل السابع إذا أفشلوا إقرارها في لبنان إطلاقاً لشرارة الحرب الأهلية، وخراباً ودماراً في لبنان، وخطراً على القوات الدولية في الجنوب، وهجوماً لـ"القاعدة" ضدها. يعني كل أشكال المخاطر والترهيب والتخويف والتهديد والأعمال الإرهابية ستحصل إذا أقرت المحكمة. لماذا؟ يقولون: لديهم ملاحظات. ما هي هذه الملاحظات؟ لا يقولون... يتحدثون عن الأمر وكأنه قضية القضايا. مستعدون للجهاد من أجلها إلى حد إلحاق الخراب بالبلد، لأن أحداً لم يأخذ بملاحظاتهم! ما هي الملاحظات؟ لا أحد يعرف؟ بل يعلنون عدم استعدادهم للإعلان عنها! أعتقد أننا أمام حالة، أو إذا اعتبروها قضية، أمام قضية فريدة في العالم وفي تاريخ البشرية. نحن أمام "قضية سرية" غير معروفة، ولها رجال بالآلاف معلنون مستعدون للاستشهاد من أجلها! وقد يلحق كل الخراب بالبلد بسببها. ولا أحد يعرف ما هي هذه القضية. ما هي أسبابها، بل أصحابها مصرون على إخفائها. في العادة تكون ثمة قضية شريفة وأخلاقية ووطنية وإنسانية، قضية ما، معلن عنها ومعروفة، ويكون ثمة رجال سريون أحياناً يعملون من أجلها ويقومون بكثير من الأمور في سبيلها، ورجال المقاومة في لبنان خاضوا تجربة مشرفة في هذا الاتجاه دفاعاً عن قضيتنا. قضية كل لبنان، أي مواجهة الاحتلال والإرهاب الإسرائيلي، وقاموا بأعمال سرية ومعلنة، حسب ما كانت تقتضيه الظروف. ونجحوا. لكنهم اليوم يتصرفون في رأيي بشكل خاطئ في التعبئة والإثارة والتهديد والوعيد رفضاً للمحكمة، وتحت عنوان أن لديهم ملاحظات، والتأكيد في الوقت ذاته أنهم غير مستعدين للإفصاح عنها أمام أحد! كيف يمكن إقناع الرأي العام بهذا الأمر؟ كيف يمكن إقناع العالم بهذا الأمر؟ وهل من الممكن أن يقتنع أحد بشيء سري لا يعرفه؟ وإذا لم يقتنع بطبيعة الحال بمثل هذا الشيء، هل يصبح خائناً وعميلاً وبائعاً لسيادة بلده؟ وهل يتوفر وفاق؟ وهل تتعزز وحدة وطنية؟ وهل وهل وهل... فتكرّ سبحة الأسئلة، التي لا تصب في مصلحة المقاومة وفريقها ومنطقها! يأتي من يقول: هذا كلام ظالم. نحن لا نعطي الملاحظات كي لا يتم استغلالها. ويضيف: "ونحن قلنا نناقشها في لجنة، ونتفق على مشروع المحكمة ثم ننتقل إلى البحث في الحكومة"! هنا ثمة أمران: الأول الخوف من استغلال الملاحظات إذا أعلنت. وفي هذا الأمر تناقض عندما يُقال نناقش في لجنة. إذا كان ثمة خوف من استغلال، وهذا هو السبب الوحيد لتعريض البلد للخطر وعدم إبداء الملاحظات، ماذا ستفعل اللجنة؟ ألن تطرح أمامها الملاحظات؟ ألن يكشف هذا السر؟ وبالتالي ألا يكون ثمة مجال للاستغلال؟ إن هذا التبرير ضعيف جداً ويحمل الكثير من التناقضات في سياق التعبير عنه. أما الأمر الثاني فهو الربط بين المحكمة والحكومة. وأنا كنت من الأساس، ولا أزال أؤكد أن موضوع المحكمة أخلاقي ووطني ووفاقي وإنساني وفوق كل الاعتبارات، ويجب أن يكون مفصولاً عنها. وقلت وأكرر: إذا كان زملاؤنا في الحكومة كانوا يخططون للانسحاب منها، إذا وجدوا ما لا يرضيهم واضطروا إلى ذلك، كنت أتمنى أن يقدموا الاستقالة تحت أي سبب من الأسباب إلا المحكمة. فيساهموا في إقرار المحكمة ويستقيلون. لأن المحكمة عنصر أساس في تكريس الوحدة الإسلامية والوحدة الوطنية اللبنانية نظراً لحساسية وموقع الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه وتداعيات الجريمة التي أطاحت به. ومع ذلك، ليس ثمة مانع من مناقشـة الحكومة... ولكن الفريق ذاته يقول نريد حكومة وحدة وطنية، ويعتبر أن الوصول إليها يكون بلعبة الأعداد أي حصة المعارضة والأكثرية. ولا يريد نقاشاً حول البرنامج السياسي لهذه الحكومة، ونحن هنا أمام حالة فريدة أخرى في تاريخ الدول والحركات السياسية. إذ لم تقم حكومة وحدة وطنية في أي دولة إلا على أساس البرنامج السياسي، الذي تتفق عليه القوى السياسية المختلفة. أما عندنا فممنوع إبداء الرأي والنقاش بموضوع المقاومة وسلاحها والخيارات الاستراتيجية، والقضايا الاقتصادية، وكيفية إنقاذ البلاد بعد هذا الجرح الكبير، الذي أصابها بسبب الممارسات غير الطبيعية على الأرض في الاعتصامات وأنواع العصيان المختلفة واللجوء إلى الشارع، وما قد يسببه كل ذلك. وإذا أبدى أحدهم رأياً في قضية ما، انهالت عليه ردود وشتائم واتهامات بالخيانة والعمالة. أما إذا أقدم أحدهم قريب -في الخارج- على أمر تفاوضي مع إسرائيل وعلى موقف سلبي من لبنان، أو من دول عربية شقيقة فهو حليف وصديق وحبيب ومعصوم من الخطأ. لا تستقيم أوضاع مع مثل هذه الممارسة. وفي النهاية سيكون حل في لبنان. وحل قائم على تسوية. لكن ما يجري يطيح بفكرة التسوية وبالتالي يطيح بأمل التوصل إلى حل. ولذلك لابد من فك لغز "القضية السرية"، التي أشرنا إليها، وتمرير المحكمة الدولية، والبحث في نقاط الخلاف السياسي بين اللبنانيين لإيجاد الصيغ والأطر الكفيلة بالحل.