وافقت الحكومة السودانية هذا الأسبوع على توقيع اتفاق مع كل من الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية ينص على تواجد قوات دولية وأفريقية في الإقليم، وتقديم دعم لوجستي، تمثل في ست طائرات هيلكوبتر غير هجومية، لتسهيل مهمة قوات حفظ السلام الأفريقية العاملة حالياً في الإقليم. وكانت السودان قد قبلت في نوفمبر الماضي بإرسال قوات أفريقية، وجاءت اتفاقية أبوجا بين عدد من الأحزاب المعارضة والحكومة المركزية لتعطي بعداً سياسياً يمكن أن يتوج البعد الإنساني في إنهاء محنة أبناء هذا الإقليم المنكوب. ودارفور هو إقليم ضخم مكون من ثلاث ولايات، شمال دارفور وجنوبه ووسطه. ويقطن الإقليم عدد من القبائل العربية والأفريقية المسلمة، من أهمها قبائل "الفور" و"الزغاوه"، و"المساليط" وعشائر "الكوبي" وغيرها من القبائل السودانية. ويمثل البعد الجغرافي للإقليم مشكلة حقيقية، حيث إن حجم أراضيه بما هو حجم فرنسا، كما أن الإقليم غنيّ بالنفط والمعادن كالفوسفات واليورانيوم، وغيرهما من الخامات الأولية، مما يعطي للإقليم مكانة خاصة في التنافس الإقليمي بين كل من السودان وليبيا وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى. وغالباً لا تحترم هذه القبائل التي تقطن الإقليم الحدود السياسية لهذه الدول، فهي تنتقل بكل يسر وسهولة بين البلدان الأربعة، وتنقل في بعض الأحيان معها المشاكل الإقليمية والقبلية بينها وبين جيرانها إلى ما وراء حدود الدولة الواحدة. وبدورهم فإن الساسة السودانيين كانوا غالباً ما يحاولون استغلال بعض هذه المشاكل الإقليمية في تنافسهم على السلطة، ففي أواخر الستينيات، حاول الصادق المهدي الاستعانة ببعض القوى المحلية في دافور لمساندته في الانتخابات الوطنية عام 1968. ويقال أيضاً إن الدكتور حسن الترابي في صراعه مع حكومة البشير، حاول بدوره تشجيع بعض أنصاره للتدخل في الصراع العسكري في الإقليم. ولا توجد أدلة دامغة في هذا السياق، ولكن هذه المقولات تعتمد على مقالات صحفية متعددة. وحين أعلنت الحكومة السودانية عام 2003 توصلها إلى اتفاق سياسي مع جبهة تحرير السودان، سارعت بعض القوى المحلية في دارفور، وكذلك في شرق السودان إلى إعلان حركة عصيان عسكري بغية الظفر كذلك بشكل من أشكال الاستقلال عن السلطة المركزية. ويرى بعض المحللين السودانيين أن حركات العصيان هذه ليست إلا حملات مركزّة من قبل القوى الاستعمارية لتفكيك السودان وإعادة نفوذها السياسي في بعض من أجزائه. والحقيقة كذلك أن هناك مشكلة هيكلية في السودان، تتمثل في عدم قدرة السلطة المركزية على بسط نفوذها بشكل كامل على جميع أجزاء البلاد، خاصة في ضوء الإنهاك الذي اعترى القدرات العسكرية للبلاد في حربها الأهلية الطويلة في الجنوب. وقد زاد الحظر الجوي الذي أعلنته الأمم المتحدة فوق أجزاء من دارفور من عدم قدرة الحكومة السودانية على لجم القوى والحركات الخارجة على القانون في الإقليم. وقد قبلت بعض الحركات المسلّحة في الإقليم بعرض الحكومة السودانية للسلام، ومنها حركة العدل والمساواة التي تمثل غالبية قبائل الفور والمساليط، ويقال إنها مقربة من الدكتور حسن الترابي. أما الحركات الأخرى مثل حركة تحرير السودان، والتي يمثل فيها بعض عشائر "الكوبي" من الزغاوة"، فقد رفضت الانضواء إلى عملية السلام في الإقليم. كما أن عناصر الجنجويد لم تذعن بعد للسلام ولا زالت تحمل السلاح في المنطقة. ويرجع جزء من الصراع كذلك إلى الجفاف الذي أصاب وسط أفريقيا، والتنافس على المياه والمراعي بين رعاه الأبقار والمواشي وغيرهم من الفلاحين في المنطقة. وسبق لمثل هذا الجفاف أن أصاب أقطاراً أخرى مجاوره مثل مالي، ونتجت عن ذلك حرب أهلية مدمرة، لم تنجلِ إلا بتدخل من بعض الدول الإسلامية وبرنامج معونة دولي، وعملية مكثفة لنزع سلاح المليشيات المتحاربة. وبموجب الاتفاق الثلاثي، بين حكومة السودان والأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية، والذي رعته المملكة العربية السعودية وأعلنت ملامحه الأولى خلال عقد مؤتمر القمة العربي الذي عقد في الرياض في الشهر الماضي، أن تتم زيادة حجم القوات الأفريقية في الإقليم على ثلاث مراحل، تتم في المرحلة الأولى زيادتها من سبعة آلاف جندي إلى عشرة آلاف جندي، وصولاً في المراحل النهائية، أو الثالثة، إلى عشرين ألف جندي، على أن يكون هؤلاء الجنود من الدول الأفريقية، ويقتصر دعم الدول الأوروبية والولايات المتحدة على الدعم اللوجستي. كما لا يشمل هذا الدعم تمركز طائرات هيلكوبتر قاصفة في الإقليم. ويبني السودانيون منطقهم في رفضهم لوجود قوات دولية في الإقليم، على أن مثل هذه القوات لم تأتِ بالسلام لكل من العراق وأفغانستان، بل إنها نشرت الموت والقتال اليومي فيهما. وبهذا فإن السودان يرحب بقوات من دول مجاورة وشقيقة، غير أنه يرفض تدخل قوات أجنبية في أراضية، لأن تدويل المشكلة من شأنه أن يقوض سيادة الدولة السودانية على أقاليمها. ويرى البعض أن اهتمام الدول الكبرى بمشكلة دارفور وتجاهلها للقضية الفلسطينية وللمشكلة العراقية، ينبع من كون مناطق وسط السودان وغربه مناطق قد ظهر فيها النفط، وأن الشركات الصينية قد سارعت إلى إبرام عقود تطوير إنتاج النفط في هذه المناطق. ولا تريد الشركات النفطية الغربية أن تفقد أي امتياز محتمل للنفط في السودان، سواءً كان في دارفور، أم في غيره من المناطق. فالبعد الإنساني لهذه المدرسة ليس إلا غطاءً لأبعاد جيوستراتيجية خاصة بالنفط والغاز، وغيرهما من المعادن الثمينة. وفي النهاية ينبغي القول إن الحكومة السودانية، وفي ضوء الضغوط الهائلة والتهديدات التي كانت تتعرض لها، كان ينبغي عليها أن تجد مخرجاً يمثل أهون الضررين. وبالتالي فإن الوصول إلى حلول وسطى هو طريق جيدة للهروب من مطرقة العقوبات المحتملة التي كان من الممكن أن يفرضها مجلس الأمن على الحكومة السودانية. ولن تنتهي المشاكل السودانية عند هذا الحد، بل على السودان أن يواجه الضغوط التي تبذلها محكمة الجزاءات الدولية بضرورة تسليم بعض الأشخاص النافذين، والذين تتهمهم المحكمة بارتكاب جرائم حرب في الإقليم. ولاشك أن الحكومة السودانية يمكنها أن تبدأ فور الوصول إلى اتفاق مع الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية إلى وضع خريطة طريق تبدأ بوقف إطلاق نار شامل في الإقليم، وإعلان المنظمات التي تمتنع عن مثل هذا الوقف بأنها خارجة على القانون، وشبه إرهابية، وذلك من قبل المنظمة الدولية. وسيضع ذلك ضغطاً على الدول المؤازرة لهذه الحركات لتوقف المساعدات إليها. ويتزامن وقف إطلاق النار هذا بإرسال معونات عاجلة إلى الإقليم، ويستحسن للحكومة السودانية الدعوة إلى مؤتمر دولي لمساعدة سكان السودان كافة، وسكان دارفور خاصة على مواجهة مخاطر المجاعة المحيطة بهم. وفي النهاية فإن أي حل إنساني أو عسكري للمشكلة يتطلب كذلك عقد عدة مؤتمرات للسلام على المستوى الشعبي لإعادة الهدوء والطمأنينة والأمن إلى سكان هذا الإقليم.