من أهم البرامج الإعلامية الذائعة الصيت في إحدى أهم القنوات الفضائية العربية برنامج "الاتجاه المعاكس". وهو على قدر كبير من الشهرة والذيوع. يثير الذهن، ويدفع إلى التفكير، ويحرك المياه الراكدة في ثقافة غلب عليها الرأي الواحد، والفرقة الناجية، والإعلام الحكومي. يفضح المواقف التي تقبل التطبيع مع إسرائيل والتي تود تكرار النموذج العراقي، الغزو الأميركي، تخليصاً للوطن العربي من بعض النظم التسلطية، وتحريراً له من أي قهر أو طغيان. ويكشف عن أهداف الليبرالية الجديدة التي تريد وراثة الليبرالية القديمة التي سادت مصر في النصف الأول من القرن العشرين، والقومية العربية والاشتراكية التي حملتها ثورات "الضباط الأحرار" في النصف الثاني منه. كما يتمتع بحيوية فائقة، تشد الأنظار إليه، وتجعل المواطن العربي يثق بإعلامه بعد أن أشاح بوجهه عنه لأنه تعبير عن بعض النظم السياسية التي يعاني منها الأمرَّين والتي تبدأ بأخبار الرئيس وحرم الرئيس وكل رجال الرئيس. تتمثل فيه القدرة على الهجوم والدفاع والجدل والسجال والتوثيق والاطلاع على آخر التقارير والمقالات لتدعيم وجهتي النظر. ويتعرض للموضوعات التي تختلج في قلب كل عربي والتي لا يجرؤ على الحديث عنها بصوت عالٍ مسموع، الغزو الأميركي للعراق، نفط العراق، المقاومة العراقية، تدمير العراق، "فتح" و"حماس"، مؤتمرات القمة العربية، القدس... الخ. أصبح البرنامج –حسب المتحمسين له- بمثابة الرئة التي يتنفس بها كل عربي في عصر بلغت فيه القلوب الحناجر، والعقل الذي يفكر به كل عربي في زمن ساد فيه الإعلام الرسمي ورفعت الشعارات في بعض المطارات "لا تفكر نحن نفكر لك"، والعين التي يشاهد بها كل عربي في وقت غمضت فيه الأعين، والأذن التي يسمع بها كل عربي بعد أن صمت الآذان بالرغم من علو الضجيج وشدة الصخب، وسيادة الضوضاء. ومع ذلك قد ينتهي "الاتجاه المعاكس" إلى عكس ما يهدف إليه. وبقدر ما يحقق من نجاحات يحقق من إخفاقات. وبقدر ما يعطي الزهو بالإعلام العربي يسبب الاحباطات في النفس العربية بعد أن اختلف الرفاق، وتقاتل المتخاصمون، وتلاعن المختلفون، دون وحدة تجمعهم إلا شد الأيادي من الأخ مقدم البرنامج بعد أن كادا يتشابكان بالأيدي وهو يفرّق بين المتقاتلين. فلا توجد نقطة التقاء بين الاتجاهين المتعاكسين. أحدهما ضد الآخر ونقيضه. يهدم الأول ما يبنيه الثاني. ويهدم الثاني ما يبنيه الأول. ويبدو المثقفان العربيان وكأنهما لا ينتسبان إلى وطن عربي واحد بل وإلى قطر عربي واحد. أحدهما أميركي غازٍ، والآخر وطني مقاوم. الأول إسرائيلي تطبيعي والثاني مناضل يبغي الشهادة. الغاية الهدم المتبادل للشيء ونقيضه، والاستبعاد والإقصاء. وقع في ثنائيات حادة بين البطولة والخيانة، والوطنية والعمالة، والحق والباطل، والصواب والخطأ، والخير والشر، والملاك والشيطان. ويشتد الاستقطاب بين الفريقين المتنازعين. هذا سلفي وذاك علماني، ولا سبيل للالتقاء بينهما في الإسلام المستنير. هذا مقاوم للتطبيع وذاك من أنصاره، ولا سبيل للالتقاء بينهما في مبادرة السلام العربية، الأرض مقابل السلام. فيصبح الحوار حوار الطرشان، ويزيد من كب الزيت على النار. ويكون أشبه بنقار الديوك، كل من الفريقين ينقر الآخر في رأسه حتى يسيل دمه. وتتبادل الاتهامات بالخيانة والعمالة، بالصّدامية والأميركية، بالقهر والاحتلال. ويصل الأمر إلى التجريح الشخصي، وإعلان السيرة الخفية لكل طرف، والكشف عن سلوكه. فالأمر ليس فقط اتجاهاً معاكساً بل سلوك نقيض. ويظهر المفكرون والمثقفون كأبطال إعلاميين مثل مشايخ الفضائيات. وينالون من الشهرة الكثير من شهرة البرنامج. ويفسح المجال للصحفيين والكتاب ليزدادوا شهرة بعد أن عزت القراءة لحساب المشاهدة. ويُظهر كل طرف قدراته الشخصية في الهجوم على الآخر، والدفاع عن النفس، واتهام الغير وتبرئة النفس. ويضيع الموضوع لصالح الشخص. ويقضي على الموضوعية لصالح الذاتية. ويتحول الفكر كله إلى ثنائيات متعارضة متضادة كما هو الحال في المانوية القديمة التي لا يلتقي طرفاها، النور والظلمة، والفضيلة والرذيلة. وهو عكس ما يهدف إليه التوحيد في لقاء الأطراف: الله والعالم في العناية، الدنيا والآخرة في العمل الصالح، الخير والشر في النفس، الأصل والفرع في القياس، الصواب والخطأ في الاجتهاد. وفي المواقف الحدية يلتقي الطرفان في الباطن وإن تناقضا في الظاهر. فكلاهما إطلاقي. كل منهما يمثل الفرقة الناجية والآخر الفرقة الهالكة. وهو ما تعاني منه الثقافة بسيادة الرأي الواحد، وما تعاني منه السياسة بسيادة الحزب الحاكم. والخطورة تساوي الطرفين، الشيء ونقيضه، لا غالب ولا مغلوب مما يوقع المواطنين في الحيرة. لكل طرف حججه ومنطقه، الفلسطيني والإسرائيلي، العراقي الوطني والعراقي الأميركي مما يصيب المشاهد بالحيرة واليأس. فيتوقف عن التفكير والفعل أو يأخذ جانباً ضد آخر فتنشق الأمة إلى فريقين متصارعين. ويزداد تقسيمها وتفتيتها وتفرقها وتشيُّعها إلى فرق وأحزاب متناحرة. وتستعمل كل أساليب الإقناع اللغوية والحركية. فقد تحول البرنامج إلى مسرحية تشد الانتباه وأحياناً إلى سيرك بين المتقاتلين المتناطحين، يتفوق فيها البطل على خصومه. ويهزم فيها الخير الشر. ويخشى من ذلك على سؤال: أين المعركة في الذهن أم في الواقع؟ على المسرح أم في الميدان؟ في "التلفزيون" أم على الأرض؟ وقد يشيع ذلك في المشاهدين الرغبة في "الانتصار"، والتوق إلى "النصر" تعويضاً عن الإحساس بالهزائم المتكررة منذ 1948، احتلال فلسطين، حتى 2003، احتلال العراق، والعجز عن المشاركة وصنع النصر. قد تعطي الإحساس بالطمأنينة بأن العرب أصحاب معارك، وهو يسمع "يا أهلاً بالمعارك" وأنها معارك متساوية بين الأطراف. المهم أن "يشد الحيل" لمزيد من الكلام والبلاغة وحسن القول وقوة الإقناع مما دفع بأحد المستشرقين المعاصرين إلى الحكم على العرب بأنهم "ظاهرة صوتية". أليس من الأفضل منطق الحوار، وآداب الحوار دون تكفير طرف لطرف أو تخوين طرف لطرف. أليس من الأفضل الوصول إلى الحد الأدنى من الاتفاق بين فرقاء الوطن الواحد وهو الوطن. فالوطنية هي الحل، وليس الاختيارات السياسية المسبقة أو المصالح الشخصية غير المعلنة أو الأهواء والانفعالات التي تخفي الهويات البديلة الطائفية أو العرقية في غياب الهوية الوطنية أو القومية؟ ولصالح من شق الصف الوطني وضرب الاتجاهات الفكرية والاختيارات السياسية بعضها ببعض آخر، وزيادة الفرقة والتشتت وهي سمة الآخرين. إن التعددية السياسية والفكرية لا تعني التضارب والتناقض والتناطح بل السماح بأكبر قدر ممكن من المداخل النظرية للموضوع العملي الواحد. فالحقيقة النظرية وجهة نظر، رأي، منظور، رؤية. في حين أن الحقيقة العملية، تحقيق المصالح العامة، واحدة. على هذا الأساس أجمع الفقهاء على أن الحق النظري متعدد، والحق العملي واحد "كلكم راد وكلكم مردود عليه". وكان الرسول يقول لأبي بكر: يا أبا بكر انزل قليلاً. وكان يقول لعمر: يا عمر اصعد قليلاً. فقد كان أبو بكر يتمسك بالنص والمبدأ، وعمر يدافع عن الواقع والمصلحة. إن أحد أسباب المواقف الحدية هو الانفعال والهوى. وأحد أسباب المواقف التوحيدية هو العقل والواقع. أيهما أفضل إذن: الاتجاه المعاكس أم الاتجاه المغاير؟ فالمعاكس مناقض ونقيض في النظر وفي العمل. والمغاير مجرد خلاف في النظر دون خلاف في العمل.