هل فعلاً يمكن اعتبار الحياة تقليداً لما يجري على رقعة الشطرنج، كما يوحي بذلك عنوان الكتاب "كيف يمكن للحياة أن تقلد الشطرنج" لمؤلفه "جاري كاسباروف" بطل العالم السابق في الشطرنج والمعارض السياسي الحالي؟ الواقع أن العكس هو ما يبدو صحيحاً للوهلة الأولى، حيث تظهر لعبة الشطرنج في الكتب القديمة والعظات الدينية على أنها قصة رمزية يوظفها رجال الدين باعتبار الشطرنج مرآة تعكس الحياة بتقلباتها وتناقضاتها وليس العكس. وحتى في عصرنا الحالي لم تعد لعبة الشطرنج مجرد رياضة عقلية تختبر ذكاء المتبارين وقدراتهم الاستراتيجية على استشراف الخطر وتفاديه، بل تلبست أبعاداً رمزية وعكست الحياة بتشعباتها المتعددة. لذا كثيراً ما تطالعنا الثقافة الشعبية من خلال الأفلام السينمائية، أو الروايات بمشهد البطل وهو عاكف على رقعة الشطرنج يحقق فيها انتصاره الأول قبل أن يمر إلى الحياة لتحقيق انتصاراته اللاحقة لتتحول الرقعة إلى فضاء فسيح تعكس ظل الحياة، أو صدى يتردد في أرجائها صوت التجربة الإنسانية. بيد أن الكتاب الذي نعرضه اليوم لمؤلفه "جاري كاسباروف" يقلب تلك المعادلة ويعيد تعريف لعبة الشطرنج في علاقتها بالحياة بما هي لعبة أخرى معقدة. فبالنسبة للمؤلف ليس الشطرنج مجرد مرآة تنطبع عليها الحياة بدسائسها وخططها الماكرة، بل هي صفحة بيضاء تسعى للاستفادة من لعبة الشطرنج وتوظيف تقنياتها لبلوغ الأهداف المرسومة. وبهذا المعنى يصدق عنوان الكتاب لتصبح الحياة مجالاً خصباً لتطبيق تقنيات الشطرنج، فحسب كاسباروف يعلمنا الشطرنج كيفية اتخاذ قرارات أفضل وبلوغ النجاح المتوخى. ومع ذلك ليس الكتاب من النوع الذي يسعى إلى إلقاء العظات ووضع الخطوات لتعزيز الثقة بالنفس، أو للمساعدة على اكتساب مهارات في وقت وجيز، بل هو خلاصة تجربة المؤلف نفسه والحافلة بالأحداث والتقلبات. "جاري كاسباروف" ليس مجرد بطل عالمي في لعبة الشطرنج طبقت شهرته الآفاق وتربع طيلة خمسة عشر عاماً على عرش البطولة العالمية للعبة، بل هو أيضاً رجل سياسي استطاع أن يحشد أصوات المعارضين للنظام الحالي في روسيا ويعبئ جهدهم للدفاع عن الديمقراطية التي يعتبرها على وشك الزوال. ويكتسي الكتاب من هذا المنظور أهمية أكبر، حيث يترفع عن مجرد سرد تاريخ اللعبة، أو علاقة الكاتب بها، ليلامس القضايا السياسية المهمة في روسيا من خلال مواقف كاسباروف. فهو كلاعب شطرنج محنك لا يتردد في الاستفادة من تقنيات المخاطرة وتطبيقها في الحياة السياسية رغم المضايقات. فقد تحلى بالشجاعة الكافية ليرفع التحدي أمام رجل روسيا القوي ونعته بأنه لا يعدو كونه "ضابطاً في جهاز الاستخبارات السوفييتي السابق". ويبدو أن كاسباروف يناور الرئيس بوتين كما يناور خصمه على رقعة الشطرنج، آخذاً في الاعتبار احتمال قتل الملك الذي لا يعني في هذه الحالة سوى تعرضه لخطر الاغتيال، أو الاختفاء كما انتهى إليه الأمر بالنسبة لصحفيين سبقوه في معارضة النظام. ولا يخلو الكتاب أيضاً من إضاءات تجلو بعض ملامح السيرة الذاتية للمؤلف محاولاً تتبع الجذور الأولى لتمرده على الوضع القائم عندما كان النظام السوفييتي في أوج قوته. وفي هذا الإطار يذكر طفولته في مدينة "باكو"، حيث كان محاطاً بمجموعة من الأساتذة والمثقفين اليهود الذي كانوا دائماً يسائلون النظام الشيوعي ويخضعون مقولاته الأيديولوجية للنقد والتمحيص. كما يشير إلى أصوله اليهودية وإلى اسمه الحقيقي "جاري وينشتاين" وإلى إدمانه على الاستماع إلى "راديو الحرية" و"صوت أميركا" وجدله الطويل مع جده المتعصب للشيوعية. وبعد وفاة أبيه في سن السابعة أخذ كاسباروف اسم أمه الأرمينية بتشجيع من مدربه "ميخائيل بوتنيف"، البطل العالمي السابق في لعبة الشطرنج، لأن الاحتفاظ باسمه اليهودي "وينشتاين" من شأنه تقليص حظوظ نجاحه في ذلك العهد. وإلى غاية اليوم يجد كاسباروف نفسه مضطراً لاستعراض حسه القومي في معارضته بالدفاع عن روسيا والسعي إلى تكريس الديمقراطية فيها. ويتجلى ذلك على نحو واضح في بعض فقرات الكتاب مثل قوله "لقد أمضيت خمسة وعشرين عاماً أرفع علم بلادي، وأعتقد أنني سأستمر في نفس الطريق". وبخصوص قرار اعتزاله المشاركة في البطولات العالمية عام 2005، وهو في قمة عطائه بعد عقدين حافلين من الإنجازات، يقول كاسباروف: "لقد كان اعتزالي مبنياً بشكل أساسي على رغبتي في مقاومة التوسع الكارثي للقوة الشمولية للدولة في بلدي". ويواصل كاسباروف انتقاده لما آلت إليه الأوضاع في روسيا موضحاً أن "أي انتقاد يوجه للدولة أصبح يوصم بالتطرف، وهي العبارة التي لا تختلف كثيراً عن الإرهاب في نظر بوتين". هذه التعليقات السياسية المناوئة للنظام الحالي في روسيا وغيرها يجدها القارئ على امتداد صفحات الكتاب، حيث إن كل ما كتبه المؤلف يمكن فهمه على ضوء قراره بالانتقال من مجال السيطرة على لعبة الشطرنج إلى أخطار ومزالق اللعبة السياسية. ويوضح كاسباروف أنه اضطر لمغادرة "منطقة الشطرنج الآمنة" لما لمسه من حاجة ملحة "بالتواجد في مكان يحتاجني فيه الناس على نحو أكبر". ولتحقيق تلك الأهداف التي حددها كاسباروف يقول: "قمت مع مجموعة من زملائي بتشكيل ائتلاف واسع وغير أيديولوجي يضم جماعات معارضة. إنني أعمل داخل روسيا وخارجها للفت الانتباه إلى ما يجري من تصفية خطيرة للمؤسسات الديمقراطية في البلد". زهير الكساب الكتاب: كيف يمكن للحياة أن تقلد الشطرنج؟ المؤلف: جاري كاسباروف الناشر: هينمان تاريخ النشر: 2007