في خضم الحملة الانتخابية الفرنسية الجارية حالياً لاختيار رئيس فرنسا المقبل، اتسم الأسبوع الأخير من تلك الحملة بالتركيز على السياسة الخارجية لفرنسا، وسعت وسائل الإعلام المختلفة إلى استطلاع آراء المرشحين وتصوراتهم حول مستقبل فرنسا ومكانتها في عالم يموج بالاضطرابات. واللافت أن النقاش حول السياسة الخارجية جاء هذه المرة مخالفاً قليلاً للتقاليد الفرنسية المعروفة التي تميل إلى إطلاق العنان للخطب الفصيحة والتحليلات الرصينة حول المصالح الجيوسياسية والمصير الأخلاقي لفرنسا في العالم. وهكذا حرم الناخبون الفرنسيون من الاستماع إلى أفكار المتنافسين على منصب الرئيس، رغم أن هذه الانتخابات تعتبر الأكثر جذباً لاهتمام الرأي العام الفرنسي منذ تشكيل التحالف الاشتراكي الشيوعي الذي فاز بالانتخابات الرئاسية عام 1981. فقد تخلى المرشحون الرئيسيون الثلاثة عن تلك التقاليد العريقة في الخطابة والجدل التي خلدها رؤساء كبار في التاريخ السياسي الفرنسي من أمثال "شارل ديغول"، أعظم السياسيين الأوروبيين في وقته، و"فرانسوا ميتران"، أكثر الرؤساء ثقافة وميكافيلية أيضاً، ليكتفي المرشحون الحاليون بمعالجة القضايا الجوهرية من خلال ملء استمارة وجهتها لهم صحيفة "لوموند". واقتصرت المحاور الأساسية لتلك الأسئلة التي يفترض فيها التطرق إلى السياسة الخارجية الفرنسية على بعض القضايا مثل التطلع النووي الإيراني ومشكلة دارفور ومسألة نشر أميركا لنظام صواريخ متطورة في بولندا وجمهورية التشيك وبيع الأسلحة للصين وتوسيع حلف "الناتو" ليضم أوكرانيا وجورجيا... فضلاً عن قضيتي الاعتماد الأوروبي على مصادر الطاقة الروسية، واقتراح روسيا الاستثمار في مشاريع الصناعة الفضائية الأوروبية. وقد أجمع المرشحون الثلاثة في أجوبتهم على معارضة امتلاك إيران للسلاح النووي، وعلى تأييد معاقبة السودان، ومناقشة مسألة نشر الصواريخ الأميركية في القارة، وما إلى ذلك من أجوبة كانت في مجملها مثيرة للملل ولا تخرج عما يعرفه الجميع. والغريب حقاً أنه في الوقت الذي تشهد العلاقات عبر الأطلسية توتراً ملحوظاً بسبب الخلافات المستحكمة حول كيفية التعامل مع الصراع العربي- الإسرائيلي، وفي الوقت الذي تتصاعد فيه نذر الحرب الأهلية في لبنان وتتفاقم المشاكل في العراق والموقف الأميركي المتداعي هناك، ثم الفجوة المتنامية بين الرئيس جورج بوش والمعارضة "الديمقراطية" في واشنطن حول الأزمة العراقية، وفي ظل احتمال شن أميركا لهجوم عبثي ضد إيران... كنا نتوقع على الأقل من مرشحي الرئاسة الفرنسية تعليقاً واضحاً حول تلك الأزمات التي تتهدد العالم. لكن يبدو أن السياسيين الفرنسيين ليسوا أقل ابتعاداً عن الحقائق العالمية من السياسيين في واشنطن والذين مازالوا يخوضون معارك حزبية حول أفضل السبل للتعامل مع الأزمة العراقية المستفحلة. وفي نظري تمثل هذه الفجوة المتصاعدة بين السياسيين الفرنسيين والواقع العالمي مشكلة كبيرة، فحتى لو وضعنا أزمة الشرق الأوسط جانباً، هناك أزمات أخرى تطل برأسها تتمثل في العلاقات عبر الأطلسية من جهة، والمشاكل التي تثيرها سياسة الطاقة الروسية من جهة أخرى. والأكثر من ذلك مازالت تنتظر الاتحاد الأوروبي صعوبات جمة فيما يتعلق بصياغة مستقبل الفضاء الأوروبي الذي لا يمكن معالجته من خلال الاكتفاء بعرض نسخة منقحة من الدستور الأوروبي على الناخبين ليرفضوه مجدداً. وإذا كان الدستور الأوروبي يسعى في المحصلة النهائية إلى إدماج الدول الأعضاء في فضاء واحد، إلا أنه لا يستطيع إدماج أوروبا سياسياً وفي نفس الوقت الاحتفاظ بدور فاعل على الساحة الدولية. وحتى لو وافق القادة الأوروبيون على الانسحاب من الساحة الدولية والاكتفاء بدور محدود، إلا أن ذلك يبقى بعيداً عن تطلعات الناخبين الفرنسيين الذين يتوقون لدور فرنسي فاعل وحيوي. والحال أن كلاً من سيجولين رويال ونيكولا ساركوزي عاجزان عن الخروج من البوتقة الضيقة للسياسة الفرنسية ومن الدائرة الجغرافية التي تشكل الحدود الفرنسية للانفتاح على القضايا العالمية المهمة. وعندما قام المرشحان بجولات خارجية في إطار حملتهما الانتخابية ظهرا وكأنهما غِران لا يفقهان شيئاً. فقد بدا ساركوزي قبل عام خلال زيارته إلى واشنطن وكأنه الكشاف الصغير الذي يحيي مدربيه، حيث اعتذر أمام اجتماع لإحدى المنظمات الأميركية التي استضافته عن فظاظة بلاده في التعامل مع الولايات المتحدة أثناء حربها على العراق. ويبدو أن ساركوزي يحاول تقديم نفسه لإدارة الرئيس بوش باعتباره بديلاً محتملاً لـ"خوسي ماريا أثنار"، رئيس الحكومة الأسباني سيئ الحظ. وبالنسبة لسيجولين رويال فقد أبدت اهتماماً أكبر بالقضايا الأخلاقية والأسرية مثل العنف والمأساة الإنسانية في دارفور على حساب الإشكالات الأساسية التي تميز العلاقات الدولية في المرحلة الراهنة. والأكثر من ذلك تلك الأخطاء والهفوات التي ارتكبتها مرشحة اليسار الفرنسية خلال زياراتها إلى الشرق الأوسط والصين والتي كان يمكن تفاديها لو اصطحبت معها أشخاصاً يعرفون تلك البلدان، أو لو استمعت إلى نصائح السفارات الفرنسية حول تقاليد الدول التي زارتها، لكن الواضح أنها تريد القيام بالأشياء حسب طريقتها ودون استشارة أحد. أما مرشح الوسط فرانسوا بايرو فله أصهار في ولاية "آيوا" الأميركية، وكثيراً ما تقوم عائلته بزيارتهم، فضلاً عن تعليمه التقليدي وعشقه لكتابة التاريخ. لكن في معرض إجابته عن مسألة نشر أنظمة أميركية للصواريخ في أوروبا أكد أنه على العلاقات عبر الأطلسية أن تقوم على أسس جديدة، موضحاً ذلك بقوله: "يحتاج الأوروبيون إلى تحليلهم الخاص للأخطار المحدقة بهم، فضلاً عن تقييمهم الاستراتيجي المستقل، وبرنامج دفاعي يأخذ في عين الاعتبار قدراتهم الخاصة. وليس هناك أشد خطورة من اتخاذ قرارات مستعجلة بسبب الضغط الأميركي على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي". ورغم أن هذا التصريح ينطوي على رصانة لا يمكن إنكارها، لاسيما تجاه الإدارة الأميركية، إلا أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن بايرو يحتل المرتبة الثالثة من بين المرشحين الرئيسيين وبالتالي فإن حظوظه للوصول إلى سدة الرئاسة تبقى ضئيلة. ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي فرنسي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس"