في عام 1789، أي بعد إعلان الدستور الأميركي بسنتين، خاطب مؤسس الولايات المتحدة بنيامين فرانكلين المجلس التأسيسي الأميركي قائلاً: "لا تظنوا أن أميركا نجحت في الابتعاد عن الأخطار بمجرد أن نالت استقلالها، فهي ما زالت مهددة بخطر جسيم لا يقل خطورة عن الاستعمار نفسه، وسيأتي ذلك الخطر من تكاثر اليهود وسيصيبنا ما أصاب البلاد الأوروبية التي تساهلت مع اليهود الذين سعوا للقضاء على تقاليد أهلها ومعتقداتهم وفتكوا بحالتهم المعنوية وشبابها، وسعوا للسيطرة على كل المؤسسات الاقتصادية والأمنية والمالية، ورفضوا الاختلاط بالشعوب التي يعيشون معها". فهل الولايات المتحدة الآن تماماً كما تنبأ فرانكلين؟ وإلى أين وصلت سيطرة جماعات الضغط اليهودية (وحلفائها) وأقواها منظمة "إيباك"؟ شهدت العاصمة الأميركية واشنطن، بين يومي 11 و13 مارس الماضي، أعمال المؤتمر السنوي للجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية المعروفة اختصارا باسم "إيباك" (AIPAC)، وهي أقوى جماعات الضغط الداعمة لإسرائيل، وبخاصة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية. فعلى مدار خمسين سنة الماضية، كانت "إيباك" حاضرة بقوة في الكونغرس لبناء علاقات استراتيجية بين إسرائيل والولايات المتحدة، حيث تجلى تأثيرها على صناع القرار عبر حرص كبار الساسة وأعضاء الكونجرس على حضور مؤتمراتها السنوية، وفي التنافس لإظهار التأييد والدعم للمنظمة ولدولة إسرائيل. وها هو هوارد فريدمان رئيس "إيباك" الذي يفخر بقوة منظمته ذات الـ100 ألف عضو في الولايات المتحدة، يصرح مع بدء أعمال المؤتمر بقوله: "هذا الأسبوع هو أهم أسبوع في العام لأنصار إسرائيل. ففي ظل التحديات والفرص القائمة في الشرق الأوسط، نأتي إلى واشنطن لننضم إلى أميركيين آخرين يشاركوننا نفس المشاعر الطيبة تجاه العلاقات الأميركية- الإسرائيلية، لكي نتأكد من أن صوتنا يصل إلى الكونجرس". والرئيس الأميركي جورج بوش من أكثر الرؤساء الأميركيين مواظبة على المشاركة في مؤتمرات "إيباك" خلال تاريخها، حتى أنه حضر مؤتمر العام الماضي أثناء الضجة التي أثيرت حول تجسس موظف كبير في البنتاغون لصالح "إيباك". لكن غياب بوش هذا العام لم يقلل من أهمية الشخصيات التي سارعت إلى تلبية دعوة "إيباك" وفي مقدمتهم ديك تشيني نائب الرئيس ونانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب، ورموز من "الحزب الديمقراطي" مثل هيلاري كلينتون والسيناتور باراك أوباما الذي قام أمام المؤتمر بتعديل تصريح سابق له مفاده أنه لا يوجد من يعاني أكثر من الشعب الفلسطيني (مضيفاً و"الإسرائيلي أيضاً"). كما حضر المؤتمر زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ وزعيم الأغلبية في مجلس النواب، ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب، وقادة الحزب "الجمهوري" مثل ميتش ماكونيل زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ والنائب جون بوهنر زعيم الأقلية في مجلس النواب. كما شارك في مؤتمر "إيباك" الأخير (6000) من الناشطين في المنظمة، مع عدد كبير من الباحثين والمختصين في شؤون الشرق الأوسط. وبمجرد إلقاء نظرة على عناوين الندوات التي عقدت خلال المؤتمر السنوي الأخير للمنظمة، نلحظ مدى قوة اللوبي اليهودي وتأثيره على السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية. فكل الندوات، بلا استثناء، ركزت على تأمين إسرائيل من أي خطر قد يهددها وحشد الدعم العالمي لصالحها. ومن هذه الندوات، "تأييد إسرائيل بين الأميركيين من أصول أفريقية"، و"المعركة السياسية الراهنة في بيروت"، و"إلى أين يقود الأسد سوريا؟"، و"كيف توضح إسرائيل موقفها للعالم؟"، "وما معنى إيران النووية للعالم؟"، و"السُّنة والشيعة وحرب الإسلام الراديكالي ضد الغرب"، و"كيف تستعد إسرائيل للتهديدات الاستراتيجية؟"، و"الدور المتنامي للجالية اللاتينية في دعم إسرائيل"، و"كيف تعمل أميركا وإسرائيل سوياً للحفاظ على أمننا"، و"إسرائيل والتوازن العسكري في الشرق الأوسط"، و"الولايات المتحدة وإسرائيل: التقليد والآفاق"، و"الولايات المتحدة وإسرائيل: نبقى متحدين". ومع نهاية المؤتمر، توجه حشد المشاركين إلى مبنى الكونجرس في إشارة رمزية تعبر عن قوة اللوبي المؤيد لإسرائيل، حيث ناقش ممثلوهم لجان مجلسي الشيوخ والنواب حول سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وكيفية دعم الروابط بين أميركا وإسرائيل. إن "إيباك" (إحدى أقوى خمس جماعات ضغط في واشنطن) هي من أكبر مراكز النفوذ في الساحة السياسية الأميركية. والمتصفح لموقعها الإلكتروني يدرك دون عناء أن وجودها هدفه توفير الدعم والحماية لإسرائيل، حيث تقول بأن "مقابلاتها مع أعضاء الكونجرس تصل إلى ألفي مقابلة في السنة الواحدة، تنتج عنها عادة مئة تشريع محابٍ لإسرائيل". ومن الأمثلة المعبرة عن نوعية الخطاب السياسي الذي يسود مؤتمرات "إيباك" ما قاله جون إدواردز (المرشح الديمقراطي السابق لمنصب نائب الرئيس) في مؤتمر عام 2006: "يجب أن نعمق علاقاتنا الاقتصادية ونقوي التعاون العسكري من أجل أن تحتفظ إسرائيل بتفوق مطلق. وهذا يعني أن ندعم علاقاتنا الدبلوماسية من أجل أن نقف معاً ضد هؤلاء الذين يحاولون استخدام بعض المؤسسات الدولية لعزل إسرائيل ومعاقبتها". وأضاف "يجب أن نفكر بأساليب جديدة من أجل أن نربط إسرائيل بأحدث ما لدينا من تكنولوجيا وأن نربط إسرائيل بمؤسساتنا الأمنية الناجحة. على سبيل المثال، أنا أعتقد بضرورة بحث سبل تطوير علاقة إسرائيل مع الناتو ومن الممكن أن تصبح عضواً كاملاً ذات يوم، والناتو هو أعظم تحالف عسكري ديمقراطي في العالم حالياً". لاشك في أن "إيباك" تمتلك كل عناصر النجاح التي تجعل منها منظمة قادرة على التأثير وفرض مواقفها. وهذا ما يؤكده "جي جي جولدنبرج"، رئيس تحرير صحيفة "إلى الأمام" (فورورد) اليهودية إذ يقول: "إن لجماعة إيباك تأثيراً قوياً على السياسة الخارجية الأميركية. وهي تحرص على ضمان تبني الولايات المتحدة وجهة النظر الإسرائيلية نحو صراع الشرق الأوسط، والقضايا العالمية بصفة عامة". وهنا يمكن تفسير ما تعرّض له الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر من حملة ضارية (بسبب كتابه الأخير "فلسطين: سلام لا فصل عنصري") من خلال إدراك قدرة ونفوذ "إيباك" في التأثير على الرأي العام ووسائل الإعلام. فالمنظمة التي تعلن صراحة أن هدفها هو دعم إسرائيل وتأمينها والدفاع عنها ضد أخطار الغد، وتحضير جيل جديد من القيادات الأميركية الداعمة لإسرائيل، و"توعية" الكونجرس بحيوية العلاقات الأميركية- الإسرائيلية... استفادت من صدمة المجتمع الأميركي من هجمات 11 سبتمبر 2001، وما خلفته تلك الهجمات من صورة سلبية عن العرب والمسلمين، فنجحت في الربط بين ما يحدث لإسرائيل وما حدث لأميركا، حيث اعتبرت وروّجت لفكرة أن الدولتين تواجهان عدواً مشتركاً هو "الإرهاب العربي الإسلامي"! ويبقى السؤال: إلى متى نتحدث عن "اللوبي اليهودي" (الإسرائيلي/ الصهيوني) دون أن نعمل على تأسيس وتطوير لوبي مضاد، حجماً ونوعاً وتأثيراً؟!