بعض الناس يعرف أن التدخين مضرّ، ولكنه يدخن. هكذا الأمر في لبنان، اللبنانيون يعرفون أن الطائفية مسيئة ولكنهم لا يتوقفون عن التمسك بها. في كل العالم تعلو المواثيق الدولية على الدساتير الوطنية، بمعنى أن القانون الدولي يتقدم على القوانين المحلية. وإذا ظهر أي تناقض بين القانونين، فإن الحكم يكون بما يقول به القانون الدولي. أما في لبنان الطائفي فان الصورة تبدو عكسية. فالقانون الوطني يتقدم على كل القوانين والمواثيق الدولية. وقرارات مجلس الوزراء تتقدم على قرارات مجلس الأمن الدولي. والشرعية هي للحكومة -هذا إذا أعجبتنا- وليس لمجلس الأمن الدولي. ولكن إذا لم تعجبنا الحكومة ولا مجلس الأمن، فالشرعية كل الشرعية تكون لما يقول به هذا الحزب أو ذاك، أو هذه الطائفة أو تلك.. مقياس المصلحة الوطنية في المجتمع الطوائفي هي أساساً مصلحة الطائفة أولاً وأخيراً. فحيث تتناقض المصالح فالأولوية تكون للطائفة وليس للوطن. والقاعدة الثابتة في الحياة السياسية الطوائفية تقوم على أساس ما يقدمه الوطن للطائفة، وليس على ما تقدمه الطائفة للوطن. فالطائفة، أي طائفة، هي بالنسبة لأبنائها أهم من الوطن وهي أولى بالولاء والتبعية. وإذا كان لابد من التضحية، فليكن الوطن هو الضحية لا الطائفة. فالثقافة الطوائفية تربي على الاحتماء بالطائفة والاستقواء بها حتى على حساب الوطن. وهي تحاول أن تجعل من الطائفة وطناً. والمواطن عندها هو الشريك في الطائفة وليس في الوطن. أما أهل الطوائف الأخرى فإنهم مجرد آخرين وليسوا مواطنين. يقال إن المجتمع الأهلي في لبنان هو أكبر من الدولة. والواقع هو أن كل طائفة تعمل على أن تكون أقوى من الدولة. وبقدر ما يمكن تطويع الدولة لخدمة هذه الطائفة أو تلك، تكون الدولة دولة، ويكون ابن الطائفة مواطناً بامتياز. أما إذا حاولت الدولة بمعناها اللاطائفي تطويع الطوائف واستيعابها في ميثاق وطني أو في عقد اجتماعي، فإن تجاوب أي طائفة معها يكون بقدر ما توفره الدولة لهذه الطائفة أو تلك من مكاسب ومواقع في السلطة. وعندما ترفع شعارات من نوع الدولة القوية والعادلة ترتسم حولها علامات استفهام حول معنى القوة وحول معنى العدالة في دولة الطوائف. فالدولة حتى تكون قوية في هذه المنظومة الطوائفية يفترض أن تكون أقوى من أي طائفة. فهل هذا مسموح طائفياً؟ وحتى تكون الدولة عادلة فإنه يفترض أن تطبق القوانين على الجميع، القوانين الأمنية والاقتصادية والسياسية. أي أن تكون لها وحدها السلطة والكلمة العليا. فهل إن هذا الأمر مقبول.. طائفياً؟ لبنان مجتمع ديمقراطي. والديمقراطية فيه -كما هي في كل مجتمع آخر- تقوم على قاعدة الأكثرية والأقلية. إن السياسة في مجتمع متنوع الأديان والمذاهب (وكذلك في المجتمع المتعدد الإثنيات أو الثقافات أو حتى المتعدد القبائل والعشائر) تعتمد على صناعة التحالفات. والتحالفات تكون بالضرورة خارج الجماعة الواحدة. ولا يمكن لأي جماعة دينية كانت أو إثنية أن تشكل جزيرة قائمة بذاتها. فالضرورات الحياتية كالعمل والمدرسة والمسكن والمستشفى والأمن والطريق يحتاج إليها الجميع. لا يمكن لجماعة أن تحتكرها دون الجماعات الأخرى. الاستقرار أو الاضطراب يصيب الجميع. الانتصار أو الانكسار يحلّ بالجميع. والغنى أو الفقر يخيم على الجميع. تبقى الهوية. فهي الأساس الثابت في أي التزام سياسي. إن الإنسان لا يستطيع أن يخرج من جلده. فهو يرث منذ ولادته الهوية التي تسري في عروقه والتي تنمو معه طفلاً وشاباً. والتعبير عن هذه الهوية هو تعبير عن الذات حتى ولو كان تعبيراً نرجسياً. فالإنسان يستطيع أن يجعل من أشياء صغيرة تتعلق بهويته قضايا كبيرة يستطيب الحياة معها أو يموت من أجلها. الحرية المقدسة عنده هي أن يكون هويته. أن يعيشها دون قيود ولا رقابة. وأن يكون في ذلك موضع احترام الآخرين، أصحاب الهويات الأخرى. من أجل ذلك، ليس غريباً أن يعاني اللبناني من حالة مرضية مستحكمة بحيث يفكر طائفياً، ويتصرف طائفياً، ويحتفل طائفياً، ويفرح طائفياً، ويخاف طائفياً، ويحلم طائفياً، وبالتالي يحاول أن يحقق ذاته طائفياً. جعل هذا الواقع من المجتمع اللبناني بطوائفه المتعددة أقوى من الدولة. فقد أدى صمود الطوائف، بسبب تماسكها الداخلي، إلى استمرار المجتمع في الوقت الذي تحولت فيه الدولة خلال الحرب اللبنانية إلى هيكل مترقّق العظام. الطائفة هي سلم الوصول إلى المناصب السياسية وإلى المراكز الإدارية. الاستقواء بالطائفة والاحتماء بعباءتها كان ولم يزل من مقومات النظام الطائفي ومن مظاهره الفجة. يقوى هذا الشعور عندما تتراجع مسيرة الوحدة الوطنية أو عندما تتعرض لانتكاسة، على النحو الذي مرّ به لبنان خلال سنوات الحرب 1975- 1990. ويضعف هذا الشعور ويختنق عندما ينهض المجتمع كله معاً. وعندما تضبط الدولة خطوات نهضته وتقودها بتناغم متكامل بين الطوائف. ولكن بيئة اجتماعية يصدعها عدم الرضى، وعدم الثقة بالآخر، يجري في عروقها سم الانقسام والتقوقع. ومع الوقت تدمن على هذا السم حتى يصبح الحصول عليه هاجسها المستمر وضالتها المنشودة. ولد لبنان بموجب معادلة طائفية. واستمر بموجب توافق طائفي. ورغم أن الحديث عن مساوئ وعن رذائل الطائفية يواكب مسيرة الحياة الوطنية منذ الاستقلال فإن لبنان يبدو في أحيان كثيرة مثل آلة ذات قدرة عجائبية على توحيد المجتمع اللبناني أمام الصعوبات الداخلية وأمام التحديات الخارجية. لقد تكررت ظاهرة التباعد بين الطوائف، حتى بدت الجسور وكأنها مقطوعة. ثم تكررت ظاهرة التلاقي بينها حتى انتفت الحاجة إلى جسور للتواصل، فالارتداد عن..، سرعان ما يتحول إلى ارتداد إلى... والأحكام المسبقة سرعان ما تسقط أمام مشاركة تطوي صفحة الماضي وتفتح صفحة جديدة وكأن شيئاً لم يكن، مما يمكّن لبنان من أن يعيد إنتاج ذاته ويؤكد صدقيته مجتمعاً منفتحاً على الحوار وعلى احترام حق الآخر في الاختلاف والتباين دون أن يعني ذلك بالضرورة الخلاف معه. من أجل ذلك فإنه في كل مرة كانت الدولة اللبنانية تحزم أمرها وتستعد للتحرك باتجاه إلغاء الطائفية السياسية (وليس إلغاء الطوائف) كانت مبادرتها تتعثر. وكانت سياستها ترتبك. إن بياناً بإلغاء الطائفية بعد أكثر من خمسين عاماً على ممارستها بتوتر، هو بمثابة بيان رقم واحد في عملية لابد أن تقلب المجتمع والدولة في لبنان رأساً على عقب. ورغم أن المادة الدستورية التي تشرّع للطائفية تعتبرها إجراء مؤقتاً، فإن الدستور اللبناني الجديد 1990- الذي تضمن سلسلة من التعديلات الجوهرية والموسعة بعد اتفاق الطائف ونتيجة له، لم يجرؤ على إنهاء الحالة المؤقتة لهذه المادة!. هناك إجماع لبناني على أنه لابدّ من التخلي عن الطائفية السياسية، ولكن هذه الطائفية لا تلغى بقرار، أياً كانت حيثيات هذا القرار. تلغى الطائفية السياسية بتوافق وطني بحيث تدرك الطوائف كلها في لبنان أن لها مصلحة منفردة ومشتركة في إلغاء الطائفية. وهذه عملية بالغة التعقيد وتحتاج إلى جهد تربوي وثقافي متفان. كما تستغرق وقتاً طويلاً لتحرير المدمنين عليها من آثارها المخدرة، ولغسل أدمغة المستقوين بها، وقطع أرزاق المستفيدين منها. لا يحق لأي طائفة في لبنان أن تطالب بالشيء وعكسه. بمعنى أنه لا يحق لها أن تطالب بالدولة القوية وأن تحاول في الوقت نفسه أن تمتلك من أسباب القوة ما يفوق إمكانات الدولة، أو أن تضع الدولة في موقف المستضعف. وليس لها أن تطالب بالدولة العادلة وهي تملي على مجتمعها الطائفي تصوراتها وإجراءاتها، وحتى تطبيقاتها لمفهومها للعدالة. هناك سبعة عشر قانوناً للأحوال الشخصية. تحترم كلها. وتطبق كلها. وبالمقابل هناك قانون مدني واحد يساوي بين الجميع ولكنه لا يحترم. وإذا ما طُبق فبمحسوبية واعوجاج. إن لكل طائفة من الطوائف السبع عشرة جامعة أو أكثر. ولها مستشفى أو أكثر. وجمعية كشفية أو أكثر.. ونادٍ رياضي أو أكثر. و.. و.. الخ.. وحتى سوبرماركت أو أكثر!!. كلها تقول بالوحدة الوطنية، ولكنها كلها تنظر إلى هذه الوحدة من منظارها الطائفي ومن خلال مصلحتها أولاً. كلها تنبذ الطائفية وتدعو إلى تجاوزها.. ولكنها كلها تدمن على ممارستها وتقع أسيرة في شرك حبائلها. ولذلك مرّت ذكرى 13 أبريل، ذكرى اندلاع الحرب الداخلية في عام 1975 وكأنها حدثت بالأمس.. أو كأنها بصدد أن تحدث في الغد!!.