تاريخ الأمم مليء بالعبر، لكن ذاكرة الشعوب ضعيفة، لا تستفيد من ضربات الأمس، ولا تُولي اهتماماً لمطالعة قصص الأولين ممن سحقتهم الأيام على حين غفلة. وكم من شعوب ظلت ترزح تحت وطأة مقدراتها بعد أن يئست من تصحيح مسارها، وكم من شعوب ثارت على مقدراتها وغيّرت وجهة مصيرها. وكل إنسان لا يخلو جسده من ندبات تعرّض لها على مدار حياته، لكن أشدها تلك التي لا تندمل، وأقصد بها جراح الأوطان حين يتلاعب بها الآخرون وهي بين أحضان أصحابها. أحيى العراقيون منذ أيام ذكرى مرور أربع سنوات على احتلال أميركا لبلدهم، سنوات لم يهدأ فيها بال عراقي واحد. يصحو أهله على نحيب الثكالى، وعلى أنهار الدم التي تسيل يومياً في طرقات العراق، دون أن يملك أحد الحيلة لوقف هذا الهوس الدموي. أتذكّر منذ أربع سنوات، لاحقت عينيَّ بسعادة عبر التلفاز، مشهد العراقيين وهم يقفون عند ساحة الفردوس حيث يقع نصب صدام حسين، وقد علت الفرحة وجوههم، تعبيراً عن تحطيم تمثال صدام حسين منهياً حقبة ديكتاتورية عانى منها الشعب العراقي على مدى ثلاثة عقود. لكن ها هم سعداء الأمس يتحسرون على تلك الأيام الخوالي بعد أن فقد العراق أمنه واستقراره، ولم يعد يخلو بيت من قتيل، أو مهاجر، آثر الخروج من أرضه حفاظاً على نفسه وأهله. من منّا لم يُتابع تلك الصور التي بثتها شاشات العالم لكي تُبرر غزو العراق، ملتقطة صوراً لعراقيين قاموا بسرقة محتويات قصور رجال البعث، وبيوت الأثرياء، كأنهم شعب همجي يعيش في معزل عن العالم، وليس شعباً وصل يوماً إلى أن يُصبح لديه مفاعل نووي، ولا يُوجد على أرضه أميُّ واحد، ولديه أكبر طاقة بشرية من العلماء والمفكرين والأكاديميين! أتذكّر أنني بكيت وأنا أقرأ عن عمليات النهب والحرق والتدمير التي طالت مكتبات ومتاحف بغداد، لأن هذا معناه طمس تاريخ شعب لم يكن يوماً كسائر الشعوب العربية!! هذا يعني أن العراق لم يكفه ما يُعانيه شعبه من آلة القتل التي تحصد أرواح المئات يوميّاً، بل بات هناك مخطط جهنمي لإفراغ هذا البلد من طاقاته البشرية المتمثلة في أصحاب الكفاءات من علماء وأكاديميين ودفعهم للهرب إلى خارج البلاد، حتّى يُمنع العراق مستقبلاً من تحقيق أي تقدّم علمي أو اجتماعي، ويحول إلى دولة هشة. والشيء المستغرب أن الإعلام العربي تواطأ دون قصد مع هذا المخطط، كونه لم يُسلّط الضوء بجدية على هذه الحقيقة المؤلمة، ولم تتم مناقشة أبعادها الخطيرة في جلسات الجامعة العربية!! أليست هناك أيادٍ عراقية ساهمت في دعم هذا المخطط الإرهابي؟! نعم فالطغاة في التاريخ يتكررون لكن بصور مغايرة، وبأشكال متباينة، لكن مهما طال حكم الجبابرة، من الصعب التحايل على التاريخ، الذي سرعان ما يقشع الأستار عن أفعالهم، مُسطّرا فضائحهم بأقلام سوداء!!. صحيفة "التايمز" اللندنية بعد حوادث القتل التي شهدتها مدينة الضباب مؤخراً، نشرت كاريكاتيراً يتعلّق بهاجس الأمن، من خلال طرحها سؤالاً محدداً على مجموعة من الشباب: ماذا تريد أن تُصبح في المستقبل؟! أجاب أحد الشباب ببساطة: أن أكون حيّاً!! نعم في أحيان كثيرة، حين يستيقظ المرء من نومه على دوي الانفجارات، وحين يجد أبناء بلده يتناحرون من أجل مكاسب سياسية، أو بسبب نعرات طائفية، أو طمعاً في حفنة مال، هنا يُصبح الوطن تراجيديا ساخرة، لا يملك الذي يحيا في وسطها سوى الحوقلة، ورفع يديه بالدعاء، قائلاً: اللهم احفظ وطني، واحفظ روحي وأولادي من لحظة غدر!!