قد يبدو الربط أعلاه غريباً، لكنه منطقي كما سنرى... تركتُ أميركا الشمالية قبيل حدوث مذبحة جامعة فرجينيا. ورغم أنه حتى كتابة هذه المقالة، لازالت المعلومات الأساسية غير مكتملة، فإن عدد القتلى والجرحى قد يقترب من الستين. ولاشك أن رجال الإعلام والخبراء الاجتماعيين، وكذلك رجل الشارع الأميركي العادي، سيقضون وقتاً كبيراً في اجترار الأزمة وتحليل أبعادها المختلفة، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، ليس في الداخل الأميركي فقط ولكن في الخارج أيضاً، بالنسبة لسمعة أميركا الدولية ومكانة مؤسساتها التعليمية لدى ملايين الشباب في أنحاء العالم. ولا لوم على هؤلاء الشباب، لأن قواعد العولمة وضغوط المنافسة تجبرهم أن يسخِّروا كل إمكانياتهم للحصول على "شهادة من جامعة أميركية معروفة". ورغم البعد الجغرافي لهذا الحادث وصفته المحلية أيضاً، فإن كثيراً من الأسر العربية ستحاول -وعن حق- استخلاص دلالاته والبحث عن حلول لأبنائها الذين يدرسون أو يبغون الدراسة في جامعات أميركا الشمالية. لم أتوقع أثناء رحلتي الأميركية حدوث مذبحة جامعة فرجينيا، لكنني لمست بعض مؤشراتها من جراء إحباطات الشارع الأميركي -بمن فيه شبابه- إزاء ما يحدث في العراق، ولا يقتصر هذا الإحباط على النزاع الدائر داخل النخبة السياسية الأميركية، بين الحزبين "الجمهوري" و"الديمقراطي" في الكونجرس، ولا حتى داخل الحزب "الجمهوري" نفسه أو داخل الإدارة الأميركية بما فيها البيت الأبيض ووزارتي الدفاع والخارجية... ولكن فيما يتعلق بالحياة اليومية للأميركي العادي. فهناك أولاً، عدم ثقة ومصداقية من جانب الكثيرين فيما يتعلق بدوافع الإدارة في غزو العراق، وأن الهدف لم يكن القضاء على أسلحة الدمار الشامل أو نشر الديمقراطية... بل إن قطاعات متزايدة من الشعب الأميركي تكتشف أن حكومتها قامت بالكذب وتسريب معلومات مغلوطة لتنفيذ قرار الغزو الذي اتخذ مسبقاً. هناك ثانياً، إحباط كبير من إدارة الوجود الأميركي في العراق، وكما قال البعض؛ فإن هذا الاحتلال أصبح نفقات واستنزافاً أكثر منه فوائد. ونحن نعرف التكلفة الناتجة عن مقتل الجنود، ولدينا أيضاً فكرة عن النفقات المالية التي كان يمكن للأميركي العادي أن يستفيد منها في الصحة والتعليم. وهناك عامل ثالث لا يعيره الإعلام كبير اهتمام، لذلك لا يصلنا بالقدر الكافي، ويتعلق بتأثير السياسة الأميركية تجاه العراق كجزء من كل، فمن المعروف أنه مع وصول "المحافظين الجدد" إلى الحكم وبعيد أحداث 11 سبتمبر 2001، كان الأساس في السياسة الأميركية -وإعلانها بكل فخر- أنها سياسة عضلات، تقوم على الانفراد بالرأي وفرضه دون حوار مع الآخرين، ثم جاء الغزو الأميركي للعراق واحتلاله ليؤكد ذلك التوجه. والحقيقة أن تلك النزعة لم تكن غائبة تماماً في المجتمع والسياسة الأميركيين، كما يوضح ذلك انتشار استعمال الأسلحة النارية وحيازتها لدى الكثيرين كأنها حق تلقائي، لكن استمرار الاحتلال وانتشار الصور يومياً عن الاقتتال المستمر، يعطي الإحساس لبعض ذوي النفوس الضعيفة -خاصة بين الشباب- أن استعمال العنف ليس إلا وسيلة روتينية وطبيعية لحل المشاكل، وبالتالي يستبعد تفكير معظم الشباب -بوعي أو بدون وعي- بالوسائل البديلة لتسوية المشكلات أو مواجهة التحديات. ويعيش هؤلاء الشباب سجناء في دائرة مغلقة من العنف والعنف المضاد! ولذلك فسهولة الحصول على الأسلحة النارية تدعم حوادث العنف هذه، كما أن اكتشاف بعض الفضائح التي تنتهك آدمية الإنسان -مثل فضيحة سجن أبوغريب والتعامل مع معتقلي جوانتانامو- تعضد نزعة الاقتتال. ولذلك فحتى لو انتهت حرب العراق اليوم، فإن تأثيرها على قيم وسلوك الشباب الأميركي، قد لا ينتهي بهذه السرعة. وقد وجب علينا، كأولياء أمور وخبراء، كيف نساعد شبابنا في الحصول على "الشهادة من جامعة أميركية معروفة"، وذلك دون التعرض للاضطرابات الشديدة التي يمر بها المجتمع الأميركي حالياً، والذي سيستمر في المعاناة منها لفترة قد تطول.