لقد كانت صدمة كبيرة تلك التي أحدثها ذلك الشاب الكوري الجنوبي، "شو سيونج- هو" بمغادرته لغرفته في السكن الداخلي لجامعة فرجينيا التكنولوجية، وإطلاقه العشوائي للرصاص الذي حصد به أرواح 32 من الطلاب والطالبات الأبرياء. ولم يرق إلى خيال أحد من أساتذة وطلاب تلك الجامعة الريفية الوديعة المرموقة، أن يحدث ما حدث في فناء جامعتهم. وبالقدر نفسه، أحدث ذلك الاعتداء صدمة كبيرة لدى عامة الأميركيين، ليس بسبب مشاعر الحزن العام على أرواح ضحايا ذلك العدوان فحسب، وإنما أيضاً لما أثاره ذلك الحادث من تساؤلات قديمة جديدة حول ظاهرة الأسلحة والعنف في بلادهم. وعلى رغم وقوع حوادث عنف مسلح حصدت أرواح عدد من الأبرياء من قبل، إلا أنها لم تصل مطلقاً حجم ما شهدته جامعة فرجينيا التي اهتمت بها وغطتها الصحافة العالمية كلها تقريباً. وفيما نذكر فقد صعد تشارلس ويتمان إلى أعلى أحد أبراج جامعة تكساس في عام 1966، وتمكن من إطلاق الرصاص وحصد أربع عشرة ضحية من ضحاياه. وفي 20 أبريل من عام 1999، تكرر حادث مشابه، أطلق شاب مراهق النار على طلاب مدرسة "كولمباين" الثانوية العليا بولاية كلورادو، وقتل ثلاثة عشر طالباً من طلابها. وبذلك نصل إلى الحادثة الأكثر قرباً، التي تمكن فيها تشارلس روبرتس من قتل خمسة طلاب في إحدى مدارس ولاية بنسلفانيا. وكانت حوادث العنف المسلح تلك في حرم الجامعات والمدارس، قد دفعت إدارات المؤسسات التعليمية في مراحلها المختلفة، إلى تبني نظم وتدابير جديدة تهدف إلى توفير الأمن لكل من الطلاب والمعلمين. وبالنتيجة فقد حرمت غالبية هذه المؤسسات، أو فرضت قيوداً صارمة على أقل تقدير، على حمل السلاح داخل فناء الحرم التعليمي. بل لقد مضت بعض المدارس الثانوية العليا إلى نصب أجهزة التفتيش الإلكتروني على الأسلحة في بوابات دخولها. كما انصب اهتمام مديري المدارس وكذلك الاختصاصيين الأمنيين، على الجوانب النفسية للمشكلة. ونتج عن ذلك الاهتمام تعيين استشاريين نفسانيين في المدارس والجامعات، كلفوا بمهمة النظر في التقارير التي يرفعها لهم الأساتذة وغيرهم عن الطلاب الذين يتسم سلوكهم بالغرابة وربما يشير إلى ميول العنف لديهم. وطولب الأساتذة على وجه الخصوص بتوخي اليقظة والحذر في المراقبة الدائمة لسلوك الطلاب، إلى جانب التبليغ الفوري عن أي حالات سلوك شاذ ينم عن العنف، سواء للمستشار النفسي أو للشرطة. وبالعودة إلى الحادثة الأخيرة التي شهدتها جامعة فرجينيا للتكنولوجيا، فقد اتضح أن أستاذ مادة اللغة الإنجليزية قد بلغ المستشار النفسي وكذلك شرطة الحرم الجامعي عن سلوك "شو" قبل وقوع الحادث، بسبب ما لاحظه فيه من غرابة في السلوك وميل للعنف فيما يقول ويكتب في دفاتر واجباته الدراسية. وقد تحدث المستشار والشرطة مع "شو" إلا أن الشرطة قالت إنه ليس لديها ما تفعله إزاءه، خاصة وأنه لم يهدد أحداً ولم يسبق له ارتكاب أي جريمة سابقاً. وكان طبيعياً أن تثير هذه الحادثة المأساوية المروعة، شأنها شأن الحوادث السابقة، حواراً عاماً حول العنف والجريمة. وللحق فقد دار هذا السجال الطويل على امتداد عدة سنوات، بين أنصار معسكرين رئيسيين يمثل أولهما، دعاة فرض قيود أكبر على حمل الأسلحة، بينما يمثل طرفه الثاني دعاة حرية اقتناء البنادق وحملها. وعادة ما يصعِّد أنصار الفريق الأول حملاتهم الداعية إلى فرض المزيد من القيود، عقب وقوع حوادث كهذه، في حين يتشدد خصومهم في الرأي في معارضتهم لفرض أي قيود إضافية على حرية حمل السلاح. لذلك وما أن وقعت هذه الحادثة الأخيرة، حتى تجدد واحتدم الحوار بين أنصار هذين المعسكرين. وكان الطرف المبادر هم دعاة "الحرية" بقولهم إن خصومهم سرعان يستغلون مثل هذه الأحداث بغية إقناع المشرعين بإصدار تشريعات بفرض المزيد من القيود على حمل السلاح. وبالفعل ولم تكن لتمر سوى بضع ساعات فحسب على حادثة جامعة فرجينيا الأخيرة هذه، حتى بادر أنصار "الحرية" إلى بث إعلانات تلفزيونية وصحفية، قالوا فيها إن هذا ليس الوقت المناسب لفرض أية قيود إضافية على الأسلحة. بل إن بعضهم مضى إلى القول إنه لو كان طلاب وأساتذة الجامعة مسلحين، لما حدث ما حدث لهم أصلاً. وعلى الصعيد نفسه، كان أول بيان رئاسي صادر عن البيت الأبيض عن الحادثة، قد عبر عن بالغ الحزن والأسف على ما حدث، إلا أنه ذكّر الجميع مجدداً بمعارضة الرئيس بوش لفرض قيود إضافية على حمل الأسلحة. يشار إلى أن المرشحين الرئاسيين "الجمهوريين" على وجه الخصوص، يعارضون بشدة فرض قيود كهذه. وعلى سبيل المثال، فقد بدأ المرشح الجمهوري "ميت رومني" الترويج والقول إنه ظل طوال حياته أحد مقتني الأسلحة، إلا أن تقارير لاحقة كشفت عن زيف هذه المعلومة، بل وأكدت أنه لم يحمل أي ترخيص سلاح طوال حياته. والفكرة كما هي واضحة هنا، هي أن ذلك القول لم يكن سوى محاولة للفوز بأصوات مالكي الأسلحة في الانتخابات المقبلة.. وما أكثرهم! والحقيقة أيضاً أن هناك من المرشحين "الديمقراطيين" من يحاول تقديم نفسه للناخبين على أنه من أنصار حمل السلاح واقتنائه. وقد فعل ذلك المرشح "جون كيري" في حملته الانتخابية الرئاسية لعام 2004، خلال منافسته للرئيس الحالي جورج بوش. يذكر أيضاً أن "جمعية البنادق الوطنية" التي يترأسها تشارلتون هيستون، تعد من أقوى الجهات المدافعة عن حرية امتلاك وحمل السلاح في أميركا، وأن لها أذرعاً قوية ونافذة داخل الكونجرس الأميركي، وتسعى لاستقطاب المزيد من دعم السياسيين، إلى جانب إعدادها لإطلاق حملة دعائية إعلانية، فحواها أن المواطنين الأميركيين يبقون أكثر أمناً في حال اقتنائهم وحملهم للأسلحة. ويدفع أعضاء اللجنة بحجة النص الدستوري الذي يخول أي مواطن أميركي حق امتلاك وحمل السلاح. ومن جانبهم يرد دعاة فرض القيود، بالقول إن الزمن قد عفا على نصوص ذلك الدستور، لكونه قد كتب قبل ما يزيد على القرنين من الزمان، في ظروف جد مختلفة عما هو عليه واقع اليوم. ومهما يكن، فمما لاشك فيه أن مشاعر الأسى قد طغت على الجميع، جراء هذه الحادثة المروِّعة التي شهدتها جامعة فرجينيا، غير أنه ليس مرجحاً لها أن تسفر عن فرض قيود إضافية على حمل الأسلحة واقتنائها. وللحقيقة فقد تغير مزاج الأميركيين كثيراً منذ وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وأصبح الكل خائفاً على أمنه وسلامته. وهذا ما يعزز مناهضة الدعوة لفرض المزيد من القيود على الأسلحة. ولئن كان ما حدث في جامعة فرجينيا قد سرق أضواء الصحافة عن المآسي اليومية التي تقع بين ضحايا العنف العراقي الأبرياء، فإن تلك الأضواء ستعود حتماً، لتوجه الاهتمام والأنظار مجدداً إلى ما يجب عمله لمساعدة ذلك الشعب المكلوم.