عقد مجلس الأمن يوم الثلاثاء الماضي جلسة خاصة، بمبادرة من بريطانيا التي تترأس المجلس حالياً، لمناقشة تأثير التغيرات المناخية على الاستقرار الدولي وعلى الأمن العالمي، وهو ما يعتبر السابقة الأولى في تاريخ المجلس منذ بدء أول جلساته في يناير من عام 1946. وتحاول بريطانيا من خلال هذه الجلسة، تكرار ما حدث في يناير من عام 2000 ، عندما نجح الدبلوماسيون البريطانيون في عقد اجتماع خاص للدول الأعضاء في مجلس الأمن، لمناقشة تأثير وباء الإيدز على الأمن الإقليمي للقارة الأفريقية، وهو الاجتماع الذي أعتبر حينها نقطة تحول تاريخية على صعيد تفعيل الجهود الدولية لمكافحة المرض. ويأتي اجتماع هذا الأسبوع، بعد يوم واحد فقط من نشر تقرير خاص، كتبه 11 لواء متقاعد من الجيش الأميركي، وصدر عن واحد من أكبر المراكز المتخصصة في الدراسات العسكرية البحرية (Center for Naval Analyses). وخلص هذا التقرير الخاص إلى عدة حقائق مهمة، منها أن الاحتباس الحراري العالمي "يطرح تحديات بالغة الأهمية على صعيد الأمن القومي للولايات المتحدة"، وأن التغيرات المناخية "ستفاقم التهديدات، وستزعزع الاستقرار، في العديد من مناطق العالم المضطربة أساساً". ويظهر هذا التقرير بشكل واضح، مدى الاهتمام الذي أصبحت تحظى به التغيرات المناخية، داخل المؤسسة العسكرية الأميركية. وهو الاهتمام الذي أصبح جليا الشهر الماضي، في أعقاب ندوة بعنوان "تبعات التغيرات المناخية الدولية على الأمن القومي"، والتي نظمها اثنين من أكبر المؤسسات الأكاديمية التابعة للجيش الأميركي، وهما كلية الحرب الأميركية (US Army War College)، ومعهد "تراينجل" للدراسات الأمنية (Triangle Institute for Security Studies) . ولكن كيف يمكن للتغيرات المناخية أن تتحول إلى صراعات عسكرية؟ وإلى تهديدات أمنية على الصعيدين القومي والإقليمي؟ أفضل مثال للإجابة على هذا السؤال، وخصوصاً على الصعيد القومي، هو مثال أزمة دارفور. فرغم أن الإعلام الغربي يحلو له أن يصور هذه الأزمة على شكل صراع عرقي عنصري، بين القبائل العربية وميليشياتها، وبين القبائل الأفريقية الأصل، إلا أن الحقيقة هي أن أزمة الإقليم هي أحد أشكال الصراع العسكري، المنتظر أن تتزايد وتتفاقم بسبب التغيرات المناخية المتوقعة خلال العقود القادمة. حيث يتميز إقليم دارفور بنظام مناخي خاص، يمتد فيه الفصل المطير ما بين شهري يونيو وسبتمبر، بينما يسوده الجفاف بقية أشهر السنة. وتعتبر الزراعة هي المهنة الأساسية لسكان الإقليم، وخصوصاً زراعة نبات الدخن أو الجاروس (Millet)، والذي يوفر الغذاء الأساسي لسكان الإقليم ولماشيتهم. وبالإضافة للزراعة، تعتمد بعض القبائل القاطنة للإقليم على الرعي الموسمي، مرتحلة بقطعانها بين شمال وجنوب الإقليم على حسب دورة المطر. هذا النظام المزدوج بين الزراعة وبين الرعي، لطالما أدى تاريخياً إلى نزاعات محدودة بين المزارعين وبين البدو الرحل، وهي النزاعات التي كانت تفض تقليديا بالتحكيم لدى شيوخ القبائل. ولكن في منتصف الثمانينيات، أصيب الإقليم بموجة جفاف حادة، أدت إلى انهيار النظام الاجتماعي التقليدي، وإلى انتشار المجاعة بين سكانه، وتحول المنافسة على مصادر المياه الشحيحة إلى صراع مسلح. وعلى مدار خمسة عشرة عام، أخذ هذا الصراع شكل مناوشات متفرقة، تصاعدت في عام 2003 لتأخذ شكلها الحالي، مع تفاقم ندرة الأمطار واضطراب توزيعها السنوي. هذا المثال الكلاسيكي، وتسببه في واحدة من أكبر المآسي الإنسانية خلال القرن الحالي، هو بالتحديد ما أعتمد عليه البريطانيون في تحفيز دول معروف عنها تقاعسها عن اتخاذ المبادرات البيئية، مثل الصين والولايات المتحدة وروسيا، للموافقة على عقد الاجتماع الخاص لمجلس الأمن هذا الأسبوع. وإن كان هناك العديد من الأمثلة المشابهة والمتطابقة في مناطق أخرى من العالم، كما هو الحال مثلاً في بعض أقاليم دول آسيا الوسطى. وعلى الصعيد الإقليمي، وبما أن منطقة الشرق الأوسط تعاني أساساً من شح في مصادر المياه العذبة، يتوقع الكثيرون أن التغيرات المناخية المتوقعة، قد تؤدي بالتبعية إلى زيادة ندرة ما هو متوفر، وهو ما سيؤدي حتماً إلى صراعات مسلحة واسعة النطاق، كما حدث بالفعل سابقاً. فعلى سبيل المثال يرى البعض أن التنافس المتزايد على مياه نهر الأردن، كان من بين أهم الأسباب التي أدت إلى حرب يونيو عام 1967. بينما يؤمن الكثيرون أن هدف السيطرة على المياه اللبنانية، كان أحد أهم أهداف غزو إسرائيل للبنان في يونيو 1982، حيث تبرز مياه نهر الليطاني منذ زمن بعيد في المخطط المائي الصهيوني. وفي نفس الوقت يشير السوريون إلى أن مياه بحيرة طبرية هي السبب الرئيسي وراء استمرار احتلال إسرائيل لهضبة الجولان، وليس أمن الدولة الصهيونية كما يدعي الإسرائيليون. وبخلاف الصراع على المياه العذبة، يتوقع أن تؤدي التغيرات المناخية إلى هجرة أكثر من 200 مليون شخص من مناطق العالم المختلفة، بعد أن تصبح بلادهم وأقاليمهم غير صالحة للمعيشة الإنسانية. مثل هذه الهجرة إن وقعت، فستصبح أكبر هجرة شهدها الجنس البشري في تاريخه، وستؤدي حتماً إلى زعزعة الاستقرار والأمن في الدول المجاورة والقصية على حد سواء. كل تلك التوقعات والسيناريوهات، وغيرها الكثير، تظهر بشكل جلي أن التغيرات المناخية ربما تصبح أكبر تهديد عرفته المجتمعات البشرية لأمنها الغذائي والصحي والسياسي والعسكري، وربما لوجودها أساساً على سطح هذا الكوكب. د. أكمل عبد الحكيم