ثمة بعض الجراح، التي لا يقدر الزمن على محو آثارها العميقة، وإن استطاع الزمن أن يمحو آثارها الظاهرة على الجسد البشري، فإنها تبقى عميقة مترسبة في أعماق الروح والقلب. وبعد مرور قرنين من الزمان على ذلك القانون الشجاع الذي أصدره البرلمان البريطاني، بتحريم وتجريم تجارة الرقيق عبر الأطلسي في كافة أنحاء الإمبراطورية التي لم تكن الشمس تغيب عن ممتلكاتها، وفي زخم الاحتفالات الوقورة المهندسة التي نظمتها حكومة توني بلير في مناسبة الذكرى المئتين على صدور قانون تحريم الاسترقاق، ما تزال حناجر البريطانيين السود تهتف: (من عام 1807 إلى عام 2007 لم يتغير شيء)، يقصدون أن الاسترقاق ما يزال قائماً بصور أخرى. ورغم أن الأسقف الأكبر لكنيسة و"يستمنستر"، قد دعا قومه إلى الاعتراف بأن الأمم الوارثة لتملك وتجارة الرقيق، بأن رخاءها وثروتها المتراكمة اليوم هي محصلة لآلام وشقاء تلك المجتمعات التي جلب منها البشر المسترقون، وأن شقاء تلك المجتمعات ومعاناتها القائمة اليوم هي بعض نتاج هذه الجريمة اللا إنسانية التي ارتكبت في حق أبنائها في الماضي، فقد صعب على رئيس الحكومة البريطانية أن يعتذر لأحفاد ضحايا تجارة الرقيق عبر الأطلسي (الأفارقة). وهكذا وفي اليوم (يوم الصلاة والقداس والاعتراف) الذي أعدّ له بصورة بهيجة وبكلمات تفيض إنسانية، كان لابد أن ينهض واحد من أحفاد الرقيق ويصرخ بالحقيقة المرة والمؤلمة في وجه حضور أنيق في مقدمته جلالة الملكة ورئيس وزرائها. وهكذا أيضاً أصبح الكاتب والصحافي البريطاني الأسود "تويني اجيباتي" (39 عاماً) هو بطل ذلك اليوم المشهود في كنيسة ويستمنستر... وغطت صوره وكلماته على صور الملكة ورئيس الوزراء والأسقف الأكبر! صحيح أن هذا الإثم الكبير اشتركت فيه وشاركت الإمبراطورية البريطانية أمم ودول أخرى، وصحيح -كما قال الأسقف- إن الاسترقاق ليس مشكلة إقليمية في العالم واجهها إقليم أو شعب دون الأقاليم والشعوب الأخرى، وإنه أمر مغروس عميقاً في جذور ثقافات البشر، وإننا الآن نعيش في عالم يملؤه الخوف والرعب من نتائج الاسترقاق العالمي الجديد في المجتمعات الصناعية المعولمة. فالعولمة وما تحمله من آثار مرعبة على الشعوب والدول النامية وتدني أجور العمال المهاجرين من العالم الثالث إلى الدول الصناعية الكبرى والظروف المعيشية التي يعيشونها، هي صور من الاسترقاق في عالم اليوم الصناعي المعولم، والحروب الأهلية والإثنية التي تفجرت وما تزال تتفجر في أفريقيا وما صحبها ويصحبها من تجنيد إجباري للأطفال الأفارقة واختطاف البنات القاصرات من أحضان أسرهم، والشبكات المنظمة التي يروح ضحاياها نساء من بلدان أوروبية في قلب بعض العواصم المتحضرة. كل هذه الأشكال هي صور من صور الاسترقاق الجديد التي يجاهد المجتمع الإنساني اليوم لمحاربتها، مثل ما فعل رواد إنجليز عظام قبل مائتي عام ،عندما استصدروا من البرلمان البريطاني قانون تجريم وتحريم تجارة الرقيق من أفريقيا عبر الأطلسي. وإذا كان رئيس الوزراء البريطاني قد تحاشى أن يقدم اعتذاراً رسمياً لأحفاد ضحايا تجارة الرقيق عبر الأطلسي، خوفاً مما قد يجره ذلك على بلده من مطالبات بالتعويضات المالية- التي يطالب بها بعض القادة السود من الأحفاد- فإن بريطانيا وغيرها من الدول التي أثرت من تجارة الرقيق في الماضي عليها واجب اليوم في تعويض أفريقيا عما أصابها من تلك الحقبة المظلمة من التاريخ، في مقدورهم اليوم أن يضاعفوا من برامج المعونات التي تقدم لأفريقيا في مجالات مكافحة الفقر ومكافحة الأوبئة والأمراض المستوطنة القاتلة، وفي مجالات نشر التعليم والمعرفة وتطوير وسائل الزراعة والري وفي مساعدة المجتمعات والدول الأفريقية للالتحاق بالقرن الحادي والعشرين. وقد يكون هذا السبيل أبلغ وأفيد من تبادل الاتهامات أو محاولة تحميل "التاريخ" نتائج الآلام وأحزان وشقاء الأفارقة وغيرهم من ضحايا عصر الاسترقاق البغيض. صحيح أن بعض الجراح تبقى آثارها في الروح والنفس عميقة، لا يستطيع الزمن تخليص الإنسان من آثارها النفسية المدمرة على الضحية وعلى الجانى حداً سواء، لكن الإنسانية التي تتفتح أمامها اليوم آفاق رحبة من المستقبل المبشر بتقدم الجنس البشري إلى عالم يسوده العدل والكرامة ونور العلم والمعرفة، تستطيع أن تنتصر على الآلام والأحزان التاريخية، إذا توجهت لبناء ذلك العالم الحلم الذي أصبح فيه الإنسان حقيقة خليفة في الأرض.