باعترافها هي نفسها، أكدت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس مؤخراً، أن الدبلوماسية المكوكية الشرق أوسطية التي قامت بها خلال الأسابيع القليلة الماضية، لم تكن تحمل أفكاراً كبيرة تذكر، وأنها اعتمدت على نهج حل الأزمات خطوة خطوة. ولنقرر ابتداءً أن هذا النهج خاطئ في الأساس، كاستراتيجية لحل النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي، وهو حتماً سيفشل الآن، مثلما فشل من قبل. ويقوم افتراض "رايس" الحالي، على أنك كلما نجحت في بناء جسر متين من الثقة بين طرفي النزاع، كلما تمكنت من إدارة تفاوض مستفيض حول التسوية النهائية للنزاع. لكن مأساة هذا الافتراض، أنه يغفل حقيقة أن النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي، ليس نزاعاً عادياً كشأن بقية النزاعات الأخرى. فمنذ بداية المشروع الصهيوني الرامي لنزع أراضي الفلسطينيين وتحويلها إلى دولة يهودية، ظل النزاع ذا طابع وجودي. ولم يكن ثمة مجال في ذلك المشروع لوجود الفلسطينيين داخل حدود بلادهم. بل إن مجرد وجود الفلسطينيين في ديارهم، قد محته تماماً السياسة الصهونية من الذاكرة، بهدف ترويج وتسويق المشروع الصهيوني الاستعماري. ويتلخص ذلك المحو في صيغته الدعائية، في العبارة الشهيرة: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". ويتجلى صلف هذا المشروع على نحو خاص، في حقيقة أن عدد الفلسطينيين، مسلمين ومسيحيين معاً، كان يعادل ما نسبته 93% من إجمالي سكان فلسطين لحظة صياغة ذلك الشعار الغريب. لكن أن تنجح اللجنة الصهيونية في تحويل فلسطين بالقوة من دولة عربية إلى دولة يهودية، بمساعدة قوات الاحتلال البريطاني وبدعم من الدول الغربية الإمبريالية، إنما يمثل إحدى أكثر القصص التاريخية إثارة للدهشة والاستغراب بين قصص القرن العشرين كله. وبالنتيجة فقد شرد الفلسطينيون من ديارهم وبيوتهم، وتفرقوا في الأرض وانبتت جذورهم وانهدم كيانهم الاجتماعي. أما من بقي منهم تحت سطوة الاحتلال طوال أربعين عاماً الماضية، فطالما تعرضوا للعنف والعقوبات الجماعية، إلى جانب تجريدهم المستمر وسلبهم حقوقهم. ولشد ما تعرض الفلسطينيون للظلم البين الذي اعترف بالمسؤولية عنه بعض القادة الإسرائيليين، لاسيما رئيس وزرائهم الأول ديفيد بن جوريون عام 1956. كما أن عدداً من المؤرخين الإسرائيليين قد وثقوا هذا الظلم خلال السنوات العشرين الماضية أو نحوها. ومع ذلك فالغريب في الأمر أن الفلسطينيين هم الطرف المطالب إلى اليوم بتقديم تنازلات من أجل التسوية السلمية للنزاع. ففي عام 1988، تخلى الفلسطينيون عن خطتهم الأصلية الرامية لإقامة دولة علمانية واحدة في فلسطين، تجمع المسلمين واليهود والمسيحيين، وقبلوا بإقامة دولة فلسطينية لا تزيد مساحتها الجغرافية، عن نصف مساحة فلسطين إجمالاً. وبموجب اتفاقات أوسلو التي أبرمت عام 1993، تخلى الفلسطينيون أيضا عن 78% من أراضيهم لصالح إسرائيل، مقابل إقامة دويلة فلسطينية صغيرة في الضفة الغربية وقطاع غزة، أي على مساحة لا تتعدى 22% فحسب من جملة أراضيهم الأصلية. وهكذا واصل الفلسطينيون مسلسل التنازلات وخسروا مزيداً من أراضيهم مع كل مشروع أو صفقة سلام مقترحة، بينما لم تخبُ عندهم جذوة الأمل مطلقاً. وبين هذا وذاك، ظلوا يتعرضون لعنف الاحتلال وقمعه، بينما تزايدت عليهم الضغوط من أجل تقديم تنازلات أخرى لصالح المحتل الإسرائيلي. نعود مرة أخرى إلى القول بعدم ملاءمة استراتيجية الخطوة خطوة، والتي كان قد تبناها وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، بالنظر إلى خلل ميزان القوى بين طرفي النزاع في فلسطين. ولذلك فالمطلوب الآن، هو القطع مع الماضي والاعتراف الصريح بأن الفلسطينيين هم الطرف المظلوم، وأن لهم كامل الحق– وليس تفضلاً عليهم من المحتل- في رد المظالم عنهم وإنصافهم وتعويضهم عما لحق بهم من ضرر. فذلك هو الطريق الصحيح لتسوية النزاع، وهو ما لم تبدِ إسرائيل أدنى استعداد للسير فيه حتى الآن. وليس أدل على ذلك من رد رئيس الوزراء الحالي إيهود أولمرت على مبادرة السلام العربية الأخيرة، برفضه لمبدأ حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وأراضيهم التي شردوا منها. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عادل الصفتي