لا جدال في أن الأجهزة الأمنية العربية تحقق نجاحات متواصلة في مكافحة الجماعات الإرهابية المنتشرة في الساحة العربية، بدءاً من العراق، مروراً بالسعودية والجزائر وانتهاءً بالمغرب. نجحت الأجهزة الأمنية في اختراق العديد من التنظيمات الإرهابية وأفلحت في تفكيك كثير من خلاياها وأجهضت العديد من المخططات الإرهابية، كما أن التعاون الأمني في تسليم المطلوبين أمنياً يتم بسلاسة وعلى قدم وساق، ومعظم الدول العربية أصدرت تشريعات خاصة بمكافحة الإرهاب. ومن هنا، يجب أن نقدّر ونثمّن الجهود والتضحيات التي يقدمها رجال الأمن وتفانيهم في أداء الواجب وحماية المواطنين من أخطار الإرهاب، فلولا تلك الجهود ما نعمت المجتمعات العربية بالأمن والاستقرار، وهناك قائمة الشرف والبسالة التي سطرت فيها أسماء رجال الأمن الشهداء، ضحايا المعارك الإرهابية، حيث استشهد هؤلاء من أجلنا ومن أجل الوطن، فهم الشهداء حقاً ولم تذهب جهودهم سدىً أبداً. وربما تساءل البعض: إذا كانت المكافحة الأمنية ناجحة في مكافحة الإرهاب فلماذا تصاعدت العمليات الإرهابية في العراق والجزائر والمغرب؟ ولماذا توحش الإرهاب وازداد ضراوة؟ الجواب أنه لولا جهود وتضحيات رجال الأمن التي نجحت في إجهاض العشرات من المشاريع الإرهابية التي كان يعدُّ لها، لكانت تلك العمليات، أضعافاً مضاعفة، ولعشنا في رعب وتوتر مستمرين ولما نعمنا بالأمن والاستقرار في حدهما الأدنى. الوجه الآخر لهذا الموضوع، وهو الأهم في قضيتنا، أن مهمة الأمن هي حماية المجتمع عبر القبض على المجرمين والجناة وملاحقتهم وإجهاض عملياتهم التخريبية، لكنه لا يستطيع أن ينفذ إلى عقول متعصبة ونفوس تملؤها الكراهية والعداء ضد مجتمعاتها، لا يستطيع الأمن حماية الناس من غزو الفكر الإرهابي... فتلك مهمة فكرية بالدرجة الأولى، وهي مسؤولية المثقفين وعلماء الدين والمربين والمسؤولين عن التوجيه والتثقيف. فالإرهاب بطبيعته (فكر) عدواني له جذور عميقة ممتدة في التربة المجتمعية، يجب كشفها واقتلاعها من خلال المنبر التعليمي والديني والوسائط الإعلامية المختلفة، وإذا كان (الاستنفار) الأمني قد نجح في مواجهة العمل الإرهابي، فإننا بحاجة إلى (استنفار) فكري وثقافي وديني لمواجهة الإرهاب فكرياً وثقافياً. نجحت الجهود (الأمنية) وكانت فعالة، لكن الجهود (الفكرية) ما تزال دون المأمول بكثير، فما برحت المنابر والمؤسسات الثقافية والدينية والإعلامية (غير مفعلة) كما ينبغي للتصدي لأفكار التطرف والإرهاب، ولا زالت عاجزة عن تحصين شبابنا وتقوية مناعتهم ضد فيروسات التطرف... لا زال المنبر التعليمي يخرّج شخصيات متوترة تجاه تحولات العصر المتسارعة بفعل العولمة، ولا زال المنبر الديني، صارخاً غاضباً اتهامياً يشحن قلوب شبابنا بمشاعر عدائية تجاه حضارة العصر، ولا زال المنبر الإعلامي، منبراً متملقاً يتلاعب بعواطف الجماهير ويحرضهم، كل همه كسب المشاهد وفق أساليب عاطفية، وبأي ثمن، ولو على حساب المصلحة العامة والاستقرار العام للدولة والمجتمع. وكانت المحصلة النهائية لهذه المنابر، خلق شخصيات قلقة، تتصور العالم تآمراً وتربصاً بالعرب والمسلمين، تشعر بالمظلومية والاضطهاد بشكل مستمر... وبطبيعة الحال فإن مثل تلك النفسيات لها قابلية كبيرة للتأثر بالغزو الفكري المتطرف، حتى إذا تمكن منها دفعها إلى السلوك الإجرامي! لا زال دعاة (الكراهية) ورموز (التحريض) ومشايخ (التكفير) وتجار (الشعارات) ومثقفو (التبرير)... يهيمنون على منابر التوجيه والتربية والإعلام. لقد دعا مجلس الوزراء السعودي إلى مواجهة الإرهاب -فكرياً- وأكد الأمير نايف- وزير الداخلية السعودي- ذلك بقوله: "إن الإرهابيين يدّعون تبنّي الفكر الإسلامي، وهذا أمر خاطئ، وهم بذلك يسيئون للإسلام، وينبغي للعلماء ومنابر المساجد والصحف والقنوات الفضائية التحرك، وإذا لم يتم هذا الأمر فإننا مقصرّون". ووصف المحرضين والمبررين بأنهم (أخطر ممن ينفذون العمليات الميدانية). لا زالت الجهود الفكرية غير كافية، ومعظم الدول العربية تكتفي بالمواجهات الأمنية، والسؤال: لماذا؟! لأنه لا توجد قناعة كافية عند البعض بأن الإرهاب هو ثمرة (ثقافة مريضة) مستوطنة في الأرض العربية –ظناً منهم- أنه فيروس خارجي عابر، وهناك قطاع من المثقفين والرموز الدينية على قناعة بأن الإرهاب (صناعة أميركية) لإلهاء العرب عن قضيتهم الرئيسية ولضمان تواجد القوات الأميركية! والعديد من المثقفين –مناضلي القنوات الفضائية- يبررون الإرهاب بالمظالم الأميركية للعرب والمسلمين في أفغانستان والعراق وفلسطين، وأنه يأتي كردّ فعل من باب الثأر والانتقام للكرامة الجريحة، هؤلاء لا يقولون لنا ما علاقة العمال البسطاء والنساء والأطفال والمدنيين الأبرياء بالمظالم الأميركية حتى يفجر الانتحاري نفسه فيهم؟ ما ذنبهم؟ المظالم موجودة عند جميع شعوب الأرض، فلماذا لا يدفع هؤلاء شبابهم لتدمير ذاتهم في الآخرين؟ لقد كنا أمة تدعو للخير والتسامح والسلام والمعروف، وأصبحنا أمة تزرع الخوف، يتوجس العالم من شبابنا الذين تحوّلوا إلى قنابل بشرية مدمرة! هل بسبب الظلم الأميركي أو الإسرائيلي نعسكر المفاهيم ونشجع أبناءنا على أن يصبحوا قنابل بشرية؟! إن إخفاقنا في تحليل الظاهرة الإرهابية وردّها إلى عواملها الثقافية والفكرية والاجتماعية، هو من جملة الإخفاقات السياسية والاقتصادية الخطيرة. وإذا أردنا معالجة الإرهاب فكرياً وحماية الأجيال القادمة من شروره، علينا أن نعترف أن هؤلاء الذين يفجرون أنفسهم، هم نتاج تربية بائسة، وهم أبناء خطاب تعليمي متعصب، وهم ثمرة خطاب ديني معادٍ للحضارة. لقد شربوا من ينابيع مسمومة وتربوا في أحضان مدارس تكفيرية تخرجوا منها، كارهين، ناقمين على الحياة والأحياء، على المجتمع والإنسان!