جديد من نوعه في تاريخ العلاقات الأميركية– الإسرائيلية الخلاف الراهن بين إدارة جورج بوش وحكومة إيهود أولمرت. وليس الجديد هو الخلاف في حد ذاته. فكم من خلافات حدثت بين إدارات أميركية وحكومات إسرائيلية. الجديد هو في نوع هذا الخلاف الذي يدور حول اتجاه التحرك لإحياء العملية السلمية في الشرق الأوسط. فالإدارة الأميركية التي تشعر بوطأة فشلها في العراق تبحث عن أي إنجاز، أو ما يوحي به، في هذه المنطقة. وتعتقد وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس أن إحياء العملية السلمية التي وضعتها هذه الإدارة في ذيل أولوياتها لفترة طويلة، يمكن أن يحقق هذا الهدف. ومن هنا كان اهتمامها الواضح في الشهور الأخيرة بالسعي إلى مد جسر ما بين رئيس الحكومة الإسرائيلي إيهود أولمرت ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. وقد نجحت بالفعل في عقد عدة لقاءات بينهما، وشاركت معهما في واحد منها. وكان آخر هذه اللقاءات يوم الأحد الماضي. لكن أولمرت الذي تعمد وضع سقف منخفض للغاية قبل كل لقاء عقده مع عباس، ليس مقتنعاً بجدوى أي تحرك لإحياء المسار التفاوضي مع الفلسطينيين. فهو يؤمن بنظرية سلفه الراقد في غيبوبته أريل شارون. وهذه نظرية تقوم على أن الحل التعاقدي النهائي مع الفلسطينيين ليس ممكناً في المرحلة الراهنة، وأن على إسرائيل القيام بخطوات فصل أحادية ترسم تدريجياً خطوط هذا الحل. وقد تبنى شارون هذه النظرية التي أصبحت عنصراً رئيسياً من عناصر برنامج حزب "كاديما" الذي انشق به ومعه أولمرت عن حزب "ليكود"، قبل فوز حركة "حماس" في الانتخابات التشريعية الفلسطينية التي أجريت في 25 يناير 2006 . ومن الطبيعي أن يؤدي تصاعد دور "حماس" بعد هذه الانتخابات إلى تثبيت نظرية الفصل الأحادي، وليس العدول عنها، لأن أحد مقوماتها التي وضعها شارون هو عدم وجود شريك تفاوضي فلسطيني على حد زعمه. وكان ذلك في وقت انفردت فيه حركة "فتح" بالسلطة الفلسطينية، وقبل أن تصبح "حماس"، بموقفها المعروف تجاه المفاوضات، شريكاً رئيسياً في هذه السلطة. ولذلك لم يهضم أولمرت أبداً تحرك رايس الذي تقول إنه يستهدف إحياء المسار التفاوضي بينه وبين عباس الذي أصبح مكبلاً بقيود الشراكة مع "حماس". لكنه يدرك أن الإدارة الأميركية تحتاج إلى مشهد يوحي بأنها قادرة على الإنجاز، رغم فشلها الذريع في العراق وعجزها عن وقف البرنامج النووي الإيراني أو احتوائه حتى اللحظة. لكن الخلاف الأميركي– الإسرائيلي لا يقتصر على ذلك، وإلا لما كان فيه جديد يميزه هذه المرة. فأولمرت يرى أنه إذا كانت هناك ضرورة لتحرك سلمي ما، فالأجدر أن يكون باتجاه سوريا وليس الفلسطينيين. وهذا أمر مرفوض تماماً في واشنطن حتى الآن لأنه يتعارض مع الإستراتيجية الهادفة إلى محاصرة دمشق والسعي إلى فرض عزلة عليها سعياً لإرغامها على تغيير سياستها في العراق. وهنا تحديداً الجديد في الخلاف الراهن بين إسرائيل التي تفضل أن تجرب تحركاً تجاه سوريا، والولايات المتحدة التي تركز وزيرة خارجيتها على المسألة الفلسطينية، لا لأنها ترى فرصة حقيقية لإحراز تقدم فيها، ولكن لأنها تريد تحريك المياه الآسنة في العملية السلمية وتستبعد دمشق فلا يبقى أمامها غير التحرك على صعيد المسار الفلسطيني– الإسرائيلي. إنه خلاف في الاتجاه لم يحدث مثله من قبل. وهذا جديد، لكنه ليس كل الجديد في هذا الخلاف الذي مازال الطرفان قادرين على إبقائه تحت السطح، مثلما فعلا بشأن خلافهما الذي نتج عن فشل الحرب الإسرائيلية على لبنان الصيف الماضي. فلم يعد خفياً أن إدارة بوش شجعت حكومة أولمرت على اللجوء إلى حرب جوية شاملة، وليست فقط عمليات محدودة، إثر عملية "الوعد الصادق" التي نفذها "حزب الله". وكان هذا التشجيع الأميركي حاسماً في تحديد طبيعة العدوان الإسرائيلي الذي لم يسبقه استعداد كاف رغم أن شن حرب شاملة على "حزب الله"، وبالتالي على لبنان، كان أحد الخيارات المطروحة في هيئة الأركان الإسرائيلية. لذلك شعر أولمرت وأركان حكومته بأن إدارة بوش "ورطتهم" في هذه الحرب التي بدت لكثير من المراقبين حربا بالوكالة بين أميركا وإيران. ولم يكن ممكنا إلا أن تُحدث ملابسات هذه الحرب شرخاً في العلاقة بين إدارة بوش وحكومة أولمرت. ويتقاطع هذا الشرخ مع الخلاف على الموقف تجاه سوريا، لاسيما بعد أن استنتج أولمرت من حربه المذكورة أن السبيل الأفضل لإدارة الصراع ضد "حزب الله" هو إبعاد سوريا عن إيران عبر السعي إلى استئناف المفاوضات معها. ولذلك حرص أولمرت على إبقاء القناة الخلفية غير الرسمية مع سوريا مفتوحة، من خلال استمرار اللقاءات بين رجل الأعمال الأميركي من أصل سوري الدكتور إبراهيم سليمان والمدير العام الأسبق للخارجية الإسرائيلية الدكتور "آلون لييل". فقد تم الحفاظ على هذه القناة رغم أن الحرب الإسرائيلية على لبنان كانت كفيلة بتدميرها، إذ تواصلت اللقاءات وقادت إلى حضور الدكتور سليمان اجتماعاً عقدته لجنة العلاقات الخارجية والأمن في "الكينيست" الإسرائيلي يوم الخميس الماضي لمناقشة ما أنجزته الاتصالات غير الرسمية، والتي أكد الرئيس بشار الأسد وجودها في مقابلة صحافية أجريت معه يوم 19 مارس الماضي، وقال فيها إن بلاده أجرت مفاوضات سرية مع إسرائيل لكنها لم تؤد إلى نتائج ملموسة حتى الآن. ولم تكن واشنطن سعيدة، بطبيعة الحال، بمثل هذه المفاوضات. كما لم تكن إسرائيل مستعدة، بأي حال، لوقف هذه القناة الخلفية التي انطلقت في عهد شارون متزامنة مع خلافه مع بوش على الموقف تجاه سوريا. فقد شعر الإسرائيليون بقلق حين اتجهت إدارة بوش إلى التصعيد ضد سوريا، وتحدث بعض منظريها من "المحافظين الجدد"، عن ضرورة تغيير نظام الأسد في وقت كانت ملامح الفشل الأميركي في العراق آخذة في الظهور. فالمؤسسة الأمنية الإسرائيلية ترى أن النظام السوري لا يؤذي إلا في لبنان، وأن البديل عنه قد يكون أكثر إيذاءً إذا سيطر الإسلاميون على السلطة، أو حدثت فوضى على النمط العراقي عند حدود إسرائيل هذه المرة. والمدهش هنا أن يبقى خلاف أميركي– إسرائيلي بهذا الحجم محجوباً عن الأنظار حتى بعد أن أخذ يتقاطع مع الصراع الداخلي المتصاعد في الولايات المتحدة بين البيت الأبيض والكونجرس حول التورط في العراق. فلم تكن زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى دمشق بمنأى عن اهتمام الحكومة الإسرائيلية وأنصارها في واشنطن بالسعي إلى استئناف المفاوضات مع سوريا. فقد حملت بيلوسي رسالة من أولمرت إلى الأسد أكد فيها رغبته في السلام مع سوريا. ونُسب إلى مصادر قريبة من بيلوسي أن أولمرت أكد لها سعادته لزيارتها دمشق وإيصال رسالته إلى الأسد. وهذا موقف ليس فقط مختلفاً، بل معاكسا تماماً لموقف إدارة بوش التي شنّت حملة شعواء على رئيسة مجلس النواب بسبب تلك الزيارة. ولا يقلل من ذلك التناقض بين الموقفين الإسرائيلي والأميركي، إضطرار أولمرت إلى مراعاة استياء بوش عبر إعلان أن شروطه للتفاوض مع سوريا لم تتغير، وفي مقدمتها "وقف دعمها للإرهاب". فأولمرت الضعيف، بل الأضعف من أي رئيس وزراء سبقه منذ بن جوريون، لا يرغب في زيادة الخلاف مع الإدارة الأميركية. كما أنه لا مصلحة له، كما هو الأمر بالنسبة إلى إدارة بوش، في أن يخرج هذا الخلاف إلى العلن. ولذلك يديره كلاهما بحذر شديد. فالإدارة الأميركية لا تجد خطراً حتى الآن في القناة الخلفية بين إسرائيل وسوريا. فالفجوة بين الطرفين واسعة للغاية، سواء حول النقطة التي ينبغي أن تستأنف منها المفاوضات، أو بخصوص الحل الذي يريده كل منهما. كما أن الفشل في العراق يضعف قدرة إدارة بوش على عزل سوريا إقليمياً ودولياً. ولذلك لا تشعر دمشق بحاجتها إلى إسرائيل على هذا الصعيد. وإذ كان احتمال توسع الخلاف الأميركي– الإسرائيلي يبدو ضئيلاً على هذا النحو خلال الشهور المقبلة، فهو ينطوي على مؤشر مهم بالنسبة إلى مستقبل العلاقة بين واشنطن وتل أبيب في حال فوز أحد المرشحين "الديمقراطيين" في الانتخابات الرئاسية المقبلة. فالأرجح أن تكون الإدارة "الديمقراطية"، في هذه الحال، أكثر توافقاً مع إسرائيل حول اتجاه التحرك في المنطقة، وربما أكثر دعماً لها مقارنة بالإدارة الحالية التي كنا نعتقد أنها بلغت أعلى ذروة في مساندة إسرائيل.