مازال النفط والغاز يمثلان حبراً لرسم خريطة المصالح الحيوية من منظور أمني واقتصادي، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى وجود حلقات صراعية وأخرى تعاونية وتنموية في مجال الطاقة. وفي هذا الشأن تشهد الجغرافيا السياسية للنفط في آسيا الوسطى، التي تعد إحدى النتائج المهمة لانهيار الاتحاد السوفييتي، صراعَ استراتيجيات بين الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين وروسيا وبلدان أوروبا الغربية إلى جانب الهند، وذلك منذ الحادي عشر من سبتمبر. وقد ازدادت وتيرة التنافس والصراع بينها على الاستثمارات في مصادر الطاقة وتأمين وصولها إلى الأسواق العالمية، فآسيا الوسطى تزخر بموارد الطاقة "النفط والغاز الطبيعي" اللذين يمثلان العامل الجيوسياسي الرئيسي والمحوري الذي يحظى بأولوية متقدمة في عمليات التخطيط الاستراتيجي للأمن والتواجد العسكري الذي يأتي تحت عنوان محاربة الإرهاب. وتتربعُ آسيا الوسطى المتكونة من كل تركمانستان وأوزبكستان وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان على ثاني أكبر احتياطي للنفط بعد الخليج. ورغم "التفاوت الكبير جداً لصالح هذا الأخير"، فإن الأول عامل مهمٌّ في عمليات الطلب المتزايد على النفط، كما أن الغاز الطبيعي في آسيا الوسطى يصل إلى أهمية كبيرة عالمياً حيث تُقدر احتياطياته بـ65 تريلون قدم مكعب. وهكذا فإن مَحاور الصراع والتنافس الاستراتيجي للدول الكبرى في آسيا الوسطى، تتضح في الرغبة الغربية ورغبة دول آسيا الوسطى في تزويد أوروبا بالطاقة دون المرور عبر روسيا. وهذا واضح في أنبوب (باكو- جيهان)، الذي يمر عبر أذربيجان وجورجيا ثم تركيا. وفي مقابل هذه الرغبة عملت روسيا على استراتيجية احتواء الدول المطلة على بحر قزوين، كأذربيجان وكازاخستان، وذلك عبر إيران التي ترتبط بعلاقات عرقية وثقافية مع هذين البلدين، غير أن هذه العلاقة لا تخلو من توترات وتغليب المصلحة الآذرية والكازاخية. كما استخدمت روسيا "منظمة شنغهاي للتعاون الإقليمي" التي تضم روسيا والصين وأوزبكستان وقرغيزستان وكازاخستان وطاجيكستان وكلاً من إيران وباكستان والهند بصفة مراقبين في محاولة تدشين استراتيجية للطاقة قي آسيا الوسطى. جدير بالذكر أن موسكو تحاول بسط نفوذها على الجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفييتي السابق وتقويض سيادتها باستغلال أهمية روسيا لأوروبا بما أنها المُصدّر الأول للطاقة. ربما تحتاج أوروبا إلى صادرات الجمهوريات المستقلة لتلبية تزايد الطلب على الطاقة ولتنوِّع المصادر، غير أن هذه الجمهوريات، لاسيما دول آسيا الوسطى، تجيد اليوم لعبة العلاقات والمصالح الدولية رغم الصعوبات الجغرافية، فالمصالح الدولية سمحت لها بحيز كبير في علاقاتها السياسية والاقتصادية والصناعية. وقد استطاعت الصين التقدم في علاقاتها بآسيا الوسطى بصورة كبيرة، فقد تمكنت على سبيل المثال من مد أنابيب نفط بينها وبين كازاخستان، وهناك أيضاً أنبوب للغاز قيد الإنشاء، فالصين تتجه في علاقاتها نحو توفير الطاقة والحفاظ على أمنها ونموها وتطورها، ويتضح ذلك من صفقاتها وعلاقاتها من الخليج إلى أميركا اللاتينية، وهناك أيضاً تعاون صيني- هندي- روسي في استثمار الطاقة في سيبيريا. وقد دخلت الصين مرحلة صناعة أنابيب نقل الطاقة بأسعار معقولة وجودة عالية، مما يعني أنه سيكون لها حضور كبير في صناعات النفط والغاز وإمداداتهما في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفي مجال الغاز بصورة خاصة، ثمة مستجدات تتعلق بمحاولة إنشاء منظمة لمصدري الغاز على غرار منظمة "أوبك" النفطية، وتبدو بعض معالم هذا التوجه واضحة لدى روسيا وقطر والجزائر، وإن بقي ميلادها مشروعاً غير مكتمل الملامح. وقد صدرت بعض التصريحات المطَمْئِنة مفادها أن مثل هذه المنظمة لا تُعبر عن تكتل، بل نادٍ لمصدري الغاز، وأنها لن تضر بمصالح المستهلكين، رغم أن استهلاك الغاز سيشهد ارتفاعاً طفيفاً بسبب تحوُّل الكثير من المحركات والمولدات والمصانع إلى استخدامه، لأنه أقل سعراً وأقرب إلى البيئة النظيفة. وفي المجال ذاته، تحاول السعودية باستثمارات قيمتها 267 مليار دولار رفع طاقاتها الإنتاجية في قطاع النفط والغاز ومجالات البتروكيماويات، وأخذ مكان بارز بين كبار منتجي الغاز في العالم. أما في العراق، فلطالما كان النفط هو الرابط الوطني الرئيسي، أما اليوم فإنه يمثل عاملاً رئيسياً للانقسام بين طموح قومي كردي وصراع مع تركيا. أما إيران، فإنها تختلف كلياً لأنها تهدِّد وتضغط بورقة النفط في سبيل برنامجها النووي، ولكنها في الحقيقة تهدد وتضغط على نفسها لأنها تستورد النفط المكرر بما يفوق بأكثر من 40 % من احتياجاتها، في حين أنها خسرت موقعها الجغرافي في نقل الطاقة من آسيا الوسطى. وهكذا يكشف عالم اقتصاديات النفط والغاز متغيرات جغرافية سياسية، تجعل العلاقات الاقتصادية صراعية وتنافسية بين مختلف الفاعلين الدوليين والإقليميين القدامى والجدد، سعياً إلى الحفاظ على المصالح في منطقة تعج بتناقضات وتداخلات، ربما كان فيها عامل الطاقة الثابت الوحيد الذي يحفظ توازن هذه العلاقات التي يبدو أنها، بدورها، تتحدد وجوداً وعدماً بالطاقة... والسؤال ماذا بعد الطاقة؟