خلفت "القنابل الإسلامية" المزيد من الحفر والندوب على الواجهة الاجتماعية العلمانية لشمال أفريقيا الأسبوع الماضي، هذه المرة في الجزائر حيث أسفر انفجاران عن مقتل 33 شخصاً وجرح المئات؛ وهو ما شكل ضربة قوية لبلد ما زال يتعافى من جروح حرب أهلية وحشية بدأها "الإسلاميون". وقد اندلع هذا الصراع المليء بالفظاعات، الذي أودى في الجزائر بحياة ما لا يقل عن 200000 شخص، حسب أكثر التقديرات تداولاً، عام 1992 عندما أوقف الجيش الانتخابات حينما كان أحد الأحزاب "الإسلامية" في طريقه إلى الفوز بها. فقام "الإسلاميون" الغاضبون وأنصارهم من الشباب الفقير وغير المتعلم بحمل السلاح. والواقع أن بعضهم مازال يحارب إلى اليوم، مثلما أكدت ذلك تفجيراتُ الأربعاء الماضي. بيد أن شيئا آخر مازال مترسباً من الحرب، إنه الجدل حول ما إذا كان الجيش قد أنقذ الجزائر من إقامة نظامِ حكمٍ ديني على النموذج الإيراني، أو ما إن كان القمع قد أدى في الواقع إلى تشدد نزعة كانت ستتبدد في اختبار الديمقراطية. يمكن الوقوف على هذا الجدل عبر معظم شمال أفريقيا حيث الحكوماتُ العلمانية من درجات سلطوية متفاوتة تواجه تزايداً في التدين المحافظ الذي يدعم شكلاً متشدداً من الإسلام السياسي. وقد حظرت جميع البلدان الواقعة شمال القارة، من مصر إلى المغرب، الأحزابَ الإسلامية المتطرفة التي قد تفوز بكتل برلمانية كبيرة -إن لم تكن أغلبيات- في حال سُمح لها بالمشاركة في انتخابات وطنية حرة ونزيهة (أما ليبيا فتحظر جميع الأحزاب أياً كان لونها). وقد عانى كل بلد من هذه البلدان (باستثناء ليبيا) من هجمات إرهابية نفذتها مجموعات محلية للمتطرفين المقموعين. ماذا ينبغي فعله إذن؟ الأكيد أن وقف صعود الإسلام المحافظ لن يتسنى فقط عبر حظر الحجاب، مثلما حاولت تونس فعله سدى. كما أن السماح للأحزاب الإسلامية الخاضعة للمراقبة والصديقة للحكومة بالمشاركة في العملية السياسية لم يحل المشكلة أيضاً؛ فلا "حركة مجتمع السلم" و"حركة النهضة الإسلامية" في الجزائر، ولا "العدالة والتنمية" في المغرب نجحت في إضعاف قوة الحركات الإسلامية المتطرفة. أما الحكومات، فتدعو إلى التحلي بالصبر، مجادلةً بأن الديمقراطية الكاملة ستأتي عندما تتحسن اقتصادياتها وتنضج مجتمعاتها. وفي غضون ذلك، استعمل الزعماء الجزائريون والتونسيون تعديلات دستورية من أجل إحكام قبضتهم على زمام الأمور، بعد ازدياد الخطر؛ في حين زج المغرب بآلاف الإسلاميين في السجون. وفي هذا السياق، قال "أحمد أويحيى"، الذي كان رئيساً للوزراء في الجزائر زمن الحرب، في 2004 متحدثاً عن الفترة التي سبقت انتخابات 1992 الملغية: "لقد انفتحنا في وقت مبكر جداً، وبشكل كبير جداً". ويجادل "أويحيى" وآخرون في الدوائر النخبوية في شمال أفريقيا بأنه من الخطير جداً بالنظر إلى موجة التدين المحافظ التي تجتاح العالم الإسلامي، السماح لحركات غير ديمقراطية في الجوهر بالمشاركة في انتخابات ديمقراطية لأنه لا يمكن الوثوق في أنها ستحترم المبادئ الديمقراطية في حال وصولها إلى السلطة. والواقع أن زعماء هذه الحركات لا يبعثون على الثقة؛ فالصيف الماضي أوضح "علي بنهاجر"، وهو زعيم إسلامي سابق بلحية بُنية طويلة خاض الحرب في 1992 بعد أن حُرم من مقعد في البرلمان، أن حكومةً بقيادة الإسلاميين ما كانت لتعلق العملية السياسية، غير أنه أضاف أن جميع القرارات كانت ستُتخذ وفق القوانين الإسلامية، مشيراً إلى إيران باعتبارها -من وجهة نظره- مثالاً ديمقراطياً . من جهة أخرى، لا تحد الديمقراطية المقيَّدة الموجودة في المنطقة من حركة الإسلاميين فقط؛ وإنما تمنع عناصر المجتمع المدني الليبرالية أيضاً من المشاركة في السياسة. وهو ما يترك معظم الناس بدون صوت سياسي، عالقين بين حكومة نخبوية بعيدة عن انشغالاتهم وهمومهم، ومعارضة إسلامية أصولية. وفي هذا الإطار، تقول "خديجة شريف"، رئيسة الجمعية التونسية لحقوق المرأة، في حوار معها في تونس العاصمة في يناير الماضي عقب اشتباك القوات الحكومية مع خلية إرهابية إسلامية، وهو الاشتباك الذي أسفر عن مقتل نحو 24 شخصاً: "في غياب النقاش، يلجأ الناس إلى أبسط الأفكار". وجادلت بأن الرئيس زين العابدين بن علي لم يترك مجالاً سياسياً للمعتدلين التقدميين، الذين يمكن أن يساعدوا على وقف أو الحد من انسياق الشباب التونسي وراء الحركات الدينية الأصولية. والحال أنه لا يمكن لهذه البلدان أن تترك هذه الشريحة المتقلبة من سكانها محرومة من العملية السياسية إلى الأبد. ففي الجزائر مثلاً، مثلما هو الحال في الكثير من البلدان العربية، يعد ثلاثة أرباع السكان دون سن الثلاثين؛ ونصف من هم دون سن الخامسة والعشرين عاطلون عن العمل. وهو ما تستغله الحركات الإسلامية التي تؤثر بسهولة على هؤلاء الأشخاص. كما أن الإنترنت والمحطات التلفزيونية الفضائية العربية من الشرق الأوسط ملأت الفراغ الذي خلفته وسائل الإعلام التابعة للدولة في الداخل، وهو ما ساعد كثيراً على انتشار الأصولية. بيد أن التنمية الاقتصادية وحدها ليست هي الحل؛ ذلك أن الكثير من النشطاء الإسلاميين ينتمون إلى عائلات ميسورة. فتونس، على سبيل المثال، لديها طبقة وسطى كبيرة تمتلك منازل وتعيش حياة كريمة، إلا أنها لم تنجُ مع ذلك من الراديكالية والتشدد. ونتيجة لذلك، تجد "القاعدة"، مقابل الوجه الصديق للغرب الذي يقدَّم في فنادق شمال أفريقيا السياحية، الكثير من المعجبين في أزقة عواصمها الضيقة. ـــــــــــــــــــــ مراسل "نيويورك تايمز" في باريس ـــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"