على غرار الوشاح الذي غطت به "نانسي بيلوسي" رأسها أثناء زيارتها إلى سوريا، وما أثارته تلك الزيارة من جدل لدى بعض الأوساط في واشنطن، تغطي الصورة الحالية لرئيسة مجلس النواب الأميركي على الكثير مما يضج به الحزب "الديمقراطي" من اتجاهات مختلفة. ولعل النائب "الديمقراطي" الجديد في الكونجرس "جون يارموث" أفضل من يمثل المخاوف التي تنتاب بعض النواب "الديمقراطيين" من أن يجنح الحزب إلى اليسار أكثر من المطلوب. فقد كان "جون يارموث" النائب الذي ضمن لـ"الديمقراطيين" الأغلبية في مجلس النواب، لذا تكتسي المنطقة التي يمثلها في الكونجرس أهمية مهمة يتحسس من خلالها اتجاهات الناخبين الذين صوتوا لصالحه. وهكذا وخلال الزيارة التي قام بها إلى منطقته للتواصل مع الناخبين لم يسمع النائب "جون يارموث" غير العراق الذي استحوذ على أذهان الناخبين وراحوا يطالبون بشيء واحد هو سحب القوات الأميركية وإعادتها إلى أرض الوطن في أقرب فرصة ممكنة. وقد شعر النائب "الديمقراطي" بأن موقف الناخبين إزاء العراق كان أكثر حسماً من موقفه هو، أو موقف زملائه "الديمقراطيين" تحت قبة الكونجرس. وأدرك "يارموث" أيضاً أن تجربته في واشنطن وما يتردد من أن "نانسي بيلوسي" تسعى إلى جر الحزب "الديمقراطي" لسلوك طريق متطرف وراديكالي يطالب بجدولة الانسحاب من العراق لا أساس له من الصحة، وبأن الناخبين في الواقع هم أكثر راديكالية. لكن ما يجري في الكونجرس من صراع على السلطة بين الحزبين الرئيسيين يعقد مواقف السياسيين على جانبي المشهد السياسي. فقد جاءت "نانسي بيلوسي" إلى واشنطن لأول مرة عام 1987 وهي تحمل أفكاراً ليبرالية جداً، تهتم بالموضة وجمع الأموال للحزب "الديمقراطي". وكان واضحاً ميلها ناحية الأفكار اليسارية سواء تعلق الأمر بالقضايا الكبرى مثل معارضتها لحرب الخليج، أو بالقضايا الصغرى مثل دفاعها عن حقوق المثليين. بحيث نقل عنها قولها عام 1996 "إنني أفاخر بأن أنعت بالليبرالية". وكما هي عادتهم حاول "الجمهوريون" استغلال هذا الجانب الليبرالي في توجهات "بيلوسي" لإخافة الناخبين من الرئيسة الجديدة للكونجرس، وتكررت العملية مجدداً مع الزيارة الأخيرة التي قامت بها إلى سوريا. بيد أن الأسلوب الذي اتبعته "نانسي بيلوسي" إلى غاية اللحظة اتسم بالاعتدال الشديد والنأي بنفسها عن أفكارها السابقة في محاولة لتجنب انتقادات "الجمهوريين". لكن بعيداً عن "الجمهوريين" الذين سيستمرون في مساعيهم الرامية إلى تذكير الرأي العام بـ"ليبرالياتها المتطرفة" مهما قامت به، يكتسي الحذر الذي تبديه "نانسي بيلوسي" أهمية أكبر بالنظر إلى التجاذبات التي يحفل بها الحزب "الديمقراطي" نفسه. وما علينا في هذا الإطار سوى إلقاء نظرة على الأجنحة التي تشعر بالارتياح وتلك التي تعلن تذمرها إزاء توجه "بيلوسي" داخل الحزب. فبالعكس مما يتوقع البعض يشعر ليبراليو الحزب "الديمقراطي" بتذمر إزاء "بيلوسي" أكثر من المعتدلين. وفي هذا السياق اشتكى عضو الكونجرس الليبرالي "راؤول جريخالفا" لإحدى المجلات اهتمام رئيسة الكونجرس بما يقوله الجناح الأقل عدداً وهم "المعتدلون" في حين تهمِّش آراء الليبراليين. من جانبه عبَّر أحد "الديمقراطيين المعتدلين" عن سروره "لأن الليبراليين داخل الحزب قاموا بكل شيء طلبناه منهم"، حيث تمت الموافقة على مشروع الموازنة الذي اقترحه رئيس لجنة الموازنة في الكونجرس "جون سبرات"، بما تتضمنه من موافقة على طلب الرئيس لتمويل الحرب في العراق والحد من الإنفاق الموجه للاستحقاقات الاجتماعية التي ينادي به الليبراليون. وقد شعر التقدميون داخل الحزب "الديمقراطي" بأنهم أيضاً انهزموا في الصراع حول الحرب في العراق عندما تم إرفاق مطلب تحديد موعد معين للانسحاب الأميركي مع الموافقة على تمويل المجهود الحربي. وجاءت الوثيقة النهائية التي أقرها الكونجرس أقل من توقعات الليبراليين في الحزب "الديمقراطي"، إذ رفضت تحديد موعد ثابت واكتفت بالدعوة إلى جدولة الانسحاب، فضلاً عن موافقة الوثيقة الختامية على إرسال قوات إضافية على أن تخضع لتدريب كافٍ. والأكثر من ذلك اضطرت رئيسة الكونجرس لكبت بعض أفكارها السابقة وقاومت مساعي الليبراليين داخل الحزب "الديمقراطي" لتحقيق أهدافهم. فقد رفضت مقترح النائب "تشارلز رانجل" الداعي إلى إعادة العمل بنظام التجنيد الإجباري، كما امتنعت عن مقاضاة بوش كما طالب بذلك النائب "جون كونييرو". لكن هل يعني ذلك أن "بيلوسي" التي تقود اليوم من الوسط ستستمر على نفس النهج في الفترة المقبلة؟ ألن يخفق قلبها مجدداً لإقرار عفو غير مشروط يستفيد منه المهاجرون غير الشرعيين، وتقنين الزواج المثلي؟ الأكيد أن "بيلوسي" سياسية براجماتية جداً، ومن غير المرجح أن تضحي بمصالح الحزب "الديمقراطي" من أجل أفكارها الخاصة. يضاف إلى ذلك أنها محكومة بعاملين اثنين يتمثل الأول في الحاجة إلى إبقاء الخيمة واسعة دون مشاكل يتعايش فيها "الليبراليون" و"المعتدلون"، ذلك أن العديد من النواب "الديمقراطيين" الذين وصلوا لأول مرة إلى الكونجرس نجحوا في مناطق محافظة، وقد يؤدي جنوحهم إلى الجانب الليبرالي إلى فقدانهم للناخبين في الولايات المحافظة واستعادة "الجمهوريين" لأغلبية الكونجرس في الانتخابات المقبلة. أما العامل الثاني فيتمثل في الجماعات الناشطة خارج الكونجرس التي تدفع في اتجاه اليسار وتضغط على "الديمقراطيين" لتطبق بعض من أجندتها. ومع كل تلك الصعوبات التي تدفع "بيلوسي" إلى إبقاء قناعاتها الخاصة على الموقد الخلفي، استطاعت رئيسة الكونجرس فرض ملاحظاتها على وثيقة الموازنة العامة، فضلاً عن تشكيل هيئة للنظر في قضية الاحتباس الحراري. ـــــــــــــــــــــ محرر في مجلة "نيو ريبابليك" ـــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"