يتجه الأمين العام للأمم المتحدة "بان كي مون" إلى بذل محاولة أخيرة مع سوريا كي ترفع "الفيتو" عن المحكمة ذات الطابع الدولي التي ستقام بغية محاكمة المتهمين في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. الهدف يتركز الآن على طمأنة دمشق إلى أن المحاكمة لن تكون مسيَّسة، وإنما تستند أساساً إلى التحقيق المحترف الذي يواصله المحقق الدولي "براميرتز". وقبل ذهاب "بان" إلى سوريا، سيجري رئيس الدائرة القانونية في الأمم المتحدة "نيقولا ميشال" جولة على الأطراف اللبنانية في مهمة شرح وتطمين، فضلاً عن التشجيع على إقرار قانون المحكمة من خلال المؤسسات اللبنانية. وتعني الزيارتان أن الأمم المتحدة تريد أن تتأكد بأن القانون الحالي يمكن أن يمر، وإلا فإن "بان" سيدعو مجلس الأمن إلى البحث عن شكل آخر للمحكمة لإقراره هذه المرة وفقاً للبند السابع من ميثاق الأمم المتحدة. مهما تعددت الأسباب والاجتهادات، يمكن القول بلا مبالغة، إن هذه المحكمة هي السبب المباشر والأساسي للأزمة الراهنة في لبنان. طبعاً هناك أسباب أخرى تستلزم الحل، وهناك آليات دستورية للتعامل معها، أما المحكمة فهي استثناء لابد أن يعامل باستثنائية، وخصوصاً بروح وفاقية، لماذا؟ لأنها أصبحت مفتاح الحلول الأخرى. ومع الوقت، بل مع ازدياد التوترات، تبين أن المحكمة جعلت عنواناً للسلم الأهلي أي لاستعادته، أو لاستعادة الحرب الأهلية. ولأن الثمن باهظ إلى هذا الحد، راح بعض الأطراف يطرح من وقت لآخر أفكاراً مفادها أنه لا داعي لكسب المحكمة وخسارة البلد، هذه المعادلة تفترض مقايضة غير واقعية وغير مضمونة، ولا هدف لها سوى التخلي عن ملاحقة المجرمين وبالتالي اعتبار الجريمة كأنها حادث عابر. من أهم الدواعي التي قادت إلى هذه المحكمة وطابعها الدولي، أن الاغتيالات كانت في العهد السابق وسيلة للحصول على الارتهان السياسي، وعلى الخضوع لمشيئة القوة السورية المهيمنة. إذاً، كان يجب أن تتوقف يوماً ما، وهذا اليوم تصنعه ظروف محلية ودولية، بل تصنعه أخطاء من النوع الذي ارتكب في اغتيال الحريري، ما حوّل هذا الاغتيال إلى انتفاضة شعبية. لكن الأبرز بين الدواعي أن ممارسات النظام الأمني السوري- اللبناني شكلت ضغوطاً وابتزازات أحبطت جهاز القضاء اللبناني، وأساءت إلى استقلاليته وقدرته على إقامة العدل ومعاقبة المجرمين، الذين طالما تمتعوا بالحماية. بعد نحو عشرة أسابيع على الاغتيال انسحب الجيش السوري من لبنان، وبدأ التحقيق الدولي في الجريمة، وفي البداية كانت القوى السياسية جميعاً تؤيد المحكمة الدولية وتدعم السعي إلى "معرفة الحقيقة"، لكن المواقف ما لبثت أن تفرقت وتباعدت، وها هي بلغت اليوم انقساماً حاداً بين فريق يريد المحكمة والمحاكمة، وفريق يراوغ بموافقة مشروطة لكنه يخفي رفضاً مطلقاً لهما. ويُعزى ذلك إلى أن تقارير المحقق الدولي، أشارت إلى شريحة واسعة من التوطؤات السياسية والاستخباراتية والأمنية، مما جعل العديد من الأطراف يشعر بأنه مستهدف أو أن دوره في الاغتيال مرشح لأن يكون تحت الضوء. وضعت كل الاحتمالات على الطاولة واستقر رأي السوريين وحلفائهم من اللبنانيين على أن المحكمة الدولية استحقاق خطير لابد من تبديده. جاءت الحرب الإسرائيلية على لبنان صيف 2006 لتهز الوضع الحكومي، وأسفرت نتائجها عن وضع غامض يمكن استغلاله محلياً، ففجّرت الأزمة السياسية التي لم يلجمها سوى خطر التقاتل المذهبي، السُّني- الشيعي، إلا أن استمرار الأزمة وانسداد آفاقها وتعذر الحلول، قد يغري الأطراف بتجاوز التردد واللجوء إلى الحسم، ولو بالتقاتل، استناداً إلى موازين للقوى واضحة بترجيحها غلبة "حزب الله" وفرضه الوضع الذي يرتئيه. كان مجرد افتعال الأزمة كافياً حتى الآن لتجميد مشروع قانون المحكمة ذات الطابع الدولي، أملاً في التوصل إلى تعطيلها. لكن احتمال إنشاء محكمة دولية وفقاً للبند السابع سيأخذ الأزمة إلى كل الاحتمالات خصوصاً أسوئها. ولعل هذا محسوب أيضاً لدى مديري الأزمة، إذ أن هدفهم يختصر بأمرين: إما فرض شروطهم لتغيير المعادلة الحكومية ليتمكنوا من تعطيل المحكمة من داخل الحكومة، وإما فرض فوضى تعطل الحكومة وقراراتها. وعندما كانت أطراف المعارضة تواجه باحتمال "الفوضى" هذا كانت تستنكر بشدة، إلا أنها بدأت أخيراً تهدد بهذه الفوضى إذا أقر مجلس الأمن محكمة دولية لا قضاة لبنانيين فيها. فالفوضى هنا ستهدف إلى تعطيل أي تعامل بين السلطة اللبنانية وتلك المحكمة.