نادراً جداً ما ينخرط نجوم الرياضة في الحياة السياسية، والأكثر ندرة أن يتم ذلك قبل انتهاء مشوارهم الرياضي. لكن لاعب المنتخب الفرنسي لكرة القدم "ليليان تورام"، الذي حمل القميص الوطني الفرنسي للمرة 128 والمشرف على انتقاء اللاعبين كسر القاعدة، ورمى بكامل ثقله في المعترك السياسي. وإن لم يعلن "تورام" مشاركته المباشرة في الانتخابات الرئاسية مثلاً، إلا أن تصريحاته التي نقلتها عنه صحيفة "ليكيب" الرياضية تشي بانغماسه العميق في النقاش المصاحب للانتخابات الفرنسية بعدما عبر عن قلقه من احتمال وصول "نيكولا ساركوزي" إلى سدة الحكم، معتبراً أن مرشح حزب "الاتحاد من أجل الحركة الشعبية" قد تجاوز في أطروحاته "اليمين المتطرف" نفسه، وبات يغذي الخطاب العنصري داخل المجتمع الفرنسي. ورغم أن عميد المنتخب الفرنسي حرص على التوضيح بأنه لا يساند أي مرشح على حساب الآخر، لكنه أكد في المقابل معارضته لـ"نيكولا ساركوزي". وليست هذه المرة الأولى التي يتحفظ فيها "تورام" على السياسي الفرنسي، بل سبق وأن احتج عليه في العام الماضي عندما نعت شباب الضواحي بـ"الحثالة"، وطالب بضرورة "تطهير" الأحياء من وجودهم. ولأن "نيكولا ساركوزي" يدرك جيداً الخطورة التي تمثلها تصريحات نجم رياضي محبوب، ولأنه هو نفسه يشجع كرة القدم ويصاحب النجوم أدرك سريعاً بأنه لا يستطيع ترك شخص مثل "تورام" يهاجمه على مرأى ومسمع من الرأي العام. ومنذ ذلك الحين قرر "ساركوزي" أن يدعوه شخصياً إلى وزارة الداخلية لإجراء لقاء خاص معه لعله يقنعه بوجهة نظره ويدفعه إلى التخفيف ولو قليلاً من معارضته لأجندته السياسية، لكن بعد انتهاء اللقاء نقلت مصادر مطلعة ألا تقدم حصل في هذا الإطار وبأن نجم كرة القدم الفرنسي، مازال متوجساً من الخطاب السياسي لـ"نيكولا ساركوزي". ولو تخيلنا الحوار الذي دار بين الطرفين لأمكننا القول مثلاً إن "ساركوزي" أخبره بأن المسؤول عن الاضطرابات التي شهدتها الضواحي الفرنسية هم "السود والعرب"، بينما سيؤكد "تورام" أمامه بأن المسؤول الأول هم قلة من المنحرفين، وبأنه لم يكن يتعين عليه تحديد أصولهم العرقية، موضحاً أنه هو نفسه ينحدر من الضواحي ولا عيب في ذلك على الإطلاق. وبالطبع تعمد أصدقاء "ساركوزي" والمحيطون به الطعن في مصداقية تصريحات "تورام" ودفاعه عن قاطني الضواحي بدعوى أنه لم يعد أحد سكانها بعد أن أصبح رجلاً غنياً وابتعد عن المشاكل التي تعاني منها الضواحي، ولا يعرف عمَّ يتحدث. لكن حملة "ساركوزي" الانتخابية التي تعتمد في جزء منها على استقطاب نجوم المجتمع الفرنسي والاحتفاء بهم لضمان تأييدهم له في الانتخابات الرئاسية لما يتمتعون به من تأثير واسع على الجمهور هم أيضاً تنطبق عليهم صفة البعد عن واقع الضواحي والمشاكل التي تضج بها، وهو بالتالي تبرير غير كافٍ للطعن في مصداقية "تورام" الذي يعد نجماً محبباً، والأهم من ذلك مسموعاً لدى الرأي العام الفرنسي. يذكر أن "تورام" يحتل المرتبة الرابعة، كأفضل الرياضيين المحبوبين في فرنسا حسب استطلاعات الرأي، حيث ساهم في إحراز المنتخب الفرنسي للقب كأس العالم عام 1998، وكأس أوروبا في عام 2000، ومازال عن سن 35 عاماً يشارك في مباريات المنتخب الوطني، فضلاً عن لعبه مع فريق برشلونة الإسباني. و"تورام" الذي بلغ قمة النجاح والغنى بدأ حياة متواضعة للغاية، حيث عاش لفترة طويلة مع والدته في الضواحي ذاتها التي اتهمه "ساركوزي" بأنه لا يعرفها. وكان بإمكان "تورام" الانخراط في القضايا العادية والنأي بنفسه عن الجدل الذي صاحب تصريحاته المعارضة لـ"ساركوزي" والاكتفاء بحياة هادئة بعيدة عن المتاعب، لكنه آثر أن يتحول من مجرد رياضي محبوب إلى رياضي مواطن يتفاعل مع قضايا المجتمع ويدلي فيها برأيه. وهكذا ساهم "تورام" بانخراطه في الشأن العام الفرنسي في نسف الفرضية القائلة بأن النجوم لا يفكرون وبأنهم غارقون في الضحالة الفكرية بعدما قرر المشاركة من موقعه في النقاش السياسي والسعي إلى صياغة مستقبل المجتمع الفرنسي عبر تنديده بالعنصرية والانغلاق. وفي هذا الإطار لفت "تورام" الأنظار العام الماضي عندما وجه دعوة إلى مجموعة من المهاجرين غير الشرعيين الذين كانوا معتصمين داخل إحدى القاعات الرياضية لحضور إحدى مباريات كرة القدم بعدما اشترى جميع تذاكرهم. وخلال المباراة التي جمعت بين المنتخبين الفرنسي والجزائري في أكتوبر 2001 وشهدت نزول بعض المشجعين إلى أرضية الملعب، وفي الوقت الذي اختفى فيه اللاعبون الذين احتموا في غرف استبدال الملابس ظل "تورام" بقميصه الرياضي واقفاً على أرضية الملعب، حيث دخل في حوار مع المشجعين، منبهاً إلى خطئهم الجسيم لأنهم يسيئون مجدداً إلى الشباب المنحدر من أصول أفريقية وعربية. وعندما أبدى "جان ماري لوبن" زعيم حزب "الجبهة الوطنية" المتطرف استغرابه خلال كأس العالم من العدد الكبير للاعبين السود في المنتخب الفرنسي رد "تورام" ببرودة وسخرية قائلاً "شخصياً أنا لست أسود، ولكنني فرنسي". وفي مناسبة أخرى مشابهة هاجم "تورام" الفيلسوف الفرنسي القريب من وسائل الإعلام "آلان فينكلكروت" الذي تندَّر على المنتخب الفرنسي بعد أن تحول كما قال من "أسود، وأبيض، وبني" إلى "أسود وأسود وأسود". ورغم أن "تورام" لم يكمل دراسته الجامعية والتحق بعالم الرياضة في سن مبكرة، فإنه حرص على تثقيف نفسه من خلال القراءة المكثفة، ما جعله يتعقب المثقفين وينتقدهم بقدر ما يلاحق السياسيين ويهاجم تجاوزاتهم في حق الآخرين. وفي العام الماضي بعد انتهاء كأس العالم قضى أسبوعاً كاملاً في مهمة بأفريقيا دعماً لإحدى الجمعيات الإنسانية العاملة هناك. وعشية إحدى المباريات في 30 مارس سافر "تورام" ذهاباً وإياباً من باريس إلى برشلونة لحضور منتدى نظمته نقابة طلابية ضد العنصرية ودفاعاً عن حقوق الإنسان. وبالنظر إلى نشاطه المتوقد تم تعيينه قبل أربع سنوات كعضو في المجلس الأعلى للإدماج عله يكون مجرد صوت آخر يضفي الشرعية على المؤسسة الرسمية، لكنه أبى إلا أن يجهر بصوته معبراً عن قناعته الخاصة.