في التاسع من الشهر الحالي أتم الاحتلال الأميركي للعراق أربع سنوات عمراً، وليس احتلال القوة العظمى في النظام العالمي لدولة بوزن العراق بالأمر الهين حتى تمر ذكراه مرور الكرام، وإنما لابد من وقفة تأمل لاستخلاص الدروس والعبر. وثمة دروس ثلاثة لا يمكن تجاهلها في هذه المناسبة الأليمة لعل الوقوف عندها ينفع في مواجهة الحاضر والتخطيط للمستقبل. يتعلق الدرس الأول بسياسة "الدولة العظمى" في العالم: كيف تُصنع وتتخذ في إطارها قرارات خطيرة تسبب أضراراً فادحة؟ كنا نظن أن الرشاد الغائب في عملية صنع القرار في بلداننا حاضرة في الدول "الديمقراطية المتقدمة" ذات المؤسسات الراسخة، وفي القلب منها دولة كالولايات المتحدة، فكشفت سياسة إدارتها الحالية عن أن الأصل فيها رؤية ضيقة لنخبة حاكمة ذات مصالح محددة أوصلتها إلى أن تكذب كذباً صريحاً بشأن مبررات غزو العراق. بل لقد واصلت كذبها حتى بعد افتضاح أمره، ووصل بها الأمر الآن إلى المأزق الذي نراه، والذي يمكن اعتباره بداية لتآكل الانفراد الأميركي المؤقت بقيادة العالم، وذلك بالإضافة بطبيعة الحال إلى ما سببته من أضرار فادحة للعراق. وتبقى هذه المصلحة للأسف كابحاً يعوق أي تطوير للسياسة الأميركية إلى الأفضل، ناهيك عن صعوبة -إن لم يكن استحالة- العدول عن سياسة محورية في التحرك الخارجي للإدارة الأميركية الحالية، لأن معنى هذا أن تلك السياسة ليست سوى عنوان لفشل ذريع لابد وأن تكون له انعكاساته المهمة وبالذات في مجال تقويض مكانة الحزب "الجمهوري" ما لم يهتم بعملية تصحيح حقيقي لمساره في الشؤون الخارجية. يشير الدرس الثاني إلى سلامة "قانون التحرر الوطني" الذي يقضي بألا وجود لاحتلال دون مقاومة كما تشهد خبرات التاريخ الحديث والمعاصر، وقد أخذت حركات المقاومة على عاتقها مقاومة الاحتلال، بسبب التناقض الجذري بين مشروعه ومصالح الشعب الخاضع للاحتلال. وقد بدأت هذه الحركات التحررية دائماً في ظل ميزان للقوى بالغ الخلل لصالح الاحتلال، لكن دروس الخبرة العملية أشارت دائماً إلى أن تلك الحركات اتبعت أسلوباً قتالياً يتلاءم مع هذا الخلل (تجنب المواجهة النظامية فيما يعرف بأسلوب حرب العصابات) واستندت إلى إيمان قوي بسلامة غايتها، وتمتعت بمساندة شعبية حقيقية. ومن ثم فإن إنجازاتها تأخذ في التراكم مفضية إلى بدايات لعملية تآكل لمشروع الاحتلال سرعان ما تتسع آثارها، وصولاً إلى نقطة يصبح فيها هذا المشروع "مستهلكاً" لمصالح الاحتلال أكثر منه منتجاً لها، ومن هنا يفرض عليه تغيير سياسته فرضاً. قد يناور في مرحلة، لكنه يجبر في النهاية على التسليم بالهزيمة التي قد تأخذ شكلاً كلاسيكياً أو تغلفها عملية تسوية سياسية تتفاوت شروطها من حالة لأخرى. انطبق قانون التحرر الوطني على الحالة العراقية بوضوح، وزادت هذه الحالة أن المقاومة فيها حدثت بشكل فوري في أعقاب الاحتلال، وربما كان ذلك راجعاً للقرارات الحمقاء لسلطة الاحتلال بحل الجيش العراقي ومؤسسات أمن النظام السابق على الاحتلال بالكامل، الأمر الذي ساعد على دفع رجالها إلى معسكر المقاومة. وقد أخذت هذه المقاومة في التصاعد، وصمدت لكل ما وجه لها من ضربات ومحاولات تشويه إلى أن وصلت في العام الماضي -بسبب ما أحدثته بالقوات الأميركية من خسائر في الأرواح والعتاد- إلى القدرة على التأثير في الساحة السياسية الداخلية الأميركية، فترجم الرأي العام الأميركي غضبه من سياسة إدارته وتعثرها في العراق إلى تصويت أطاح بسيطرة الحزب "الجمهوري" على مجلسي الكونجرس في انتخابات تجديده النصفي. وها نحن نشاهد المصاعب التي يواجهها الرئيس الأميركي الحالي في ظل إصراره على مواصلة سياسته الفاشلة من ناحية والعمل مع كونجرس معارض لهذه السياسة من ناحية أخرى. أما الدرس الثالث فهو مستمد من آثار الاحتلال الأميركي للعراق، ومبعث أهمية هذا الدرس أن ثمة مدرسة في التفكير السياسي ترى أن العامل الخارجي هو الذي يجب أن يعوَّل عليه في القضاء على نظم الحكم الاستبدادية، ذلك أن درجة "تَغوُّل" هذه النظم على شعوبها تجعل من المستحيل على النخب المعارضة وقواها السياسية أن تفلح في تغيير النظام، وفي ظل هذه المدرسة تم الترويج للجدوى "الإنسانية" و"السياسية" للاحتلال الأميركي للعراق طالما أن شعبه قد أنهكه الاستبداد، وأصبح عاجزاً عن أن يأتي بأي عمل ناجح في مجال التصدي له. تبدو هذه المدرسة أصلاً بلا أساس علمي أو عملي، ففي التحليل العلمي يكون للعوامل الداخلية الأولوية دائماً في تحليل الظواهر، بما في ذلك تفسير أفولها ونهايتها، وفي الواقع العملي ليس صحيحاً أن النظم المستبدة يستحيل إسقاطها بعمل داخلي، وقد نجح الشعب الإيراني على سبيل المثال في أواخر سبعينيات القرن الماضي في إسقاط واحد من أشد النظم استبداداً في التاريخ المعاصر. غير أن الأهم من هذا كله أنه حتى بافتراض صحة هذه المدرسة فإن مسألة التدخل الخارجي لإسقاط نظم حكم بالقوة المسلحة لا ينبغي أن تؤخذ بهذه البساطة، لأن هذا التدخل -حتى وإن نجح في القضاء على حكم مستبد- يفضي في الوقت نفسه إلى أضرار بلا حدود للدولة المستهدفة. تبدو الصورة في العراق صارخة الوضوح. كان عراق صدام حسين متهماً بأنه عرف أسوأ معاني الاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان، فما الذي يتميز به "عراق الاحتلال"؟ بداية فإن أحداً لا يمكنه أن يتجاسر على وصف ما يجري في العراق الآن بأنه ديمقراطية، وبغض النظر عن أنه لا ديمقراطية أصلاً في ظل الاحتلال، فإن الأمر الذي لاشك فيه أن هناك قطاعات واسعة من الشعب العراقي لا تجد في ديمقراطية اليوم ما يعبر عن رؤاها ومصالحها. أما حقوق الإنسان فإن الصورة في نظر الكثيرين -بما في ذلك مؤسسات حقوقية دولية بل وأميركية ذات سمعة رفيعة- تبدو أبشع بما لا يقارن بعهد صدام حسين، حيث بات الحق في الحياة أصلاً في "عراق الاحتلال" موضع شك، بالإضافة إلى الانتهاكات الفادحة لحقوق الإنسان على أيدي قوات الاحتلال والميليشيات المتحالفة مع الحكم في كثير من الأحيان. يضاف إلى هذا تلك الفتنة المجتمعية التي لم يعرفها العراق قبل الاحتلال، والتي لا يوجد أدنى شك في أن الاحتلال بسياساته وقراراته، وبما أطلق له العنان من قوى التطرف، يعتبر مسؤولاً عن ظهورها وتفاقمها حتى أصبح شاغلنا اليوم هو الحرص على بقاء العراق الموحد بعد أن كان الجدل قبل الاحتلال يدور حول مكانة العراق القيادية في النظام العربي. تضيق هذه السطور عن الإحاطة بكل دروس الاحتلال وعبره، ويبقى التفكير في مستقبل العراق على ضوئها واجباً، ولاشك عندي في نهاية قريبة للاحتلال لا تتأخر عن سنوات قليلة، لكن المعضلة الحقيقية تتمثل في علاج ما أحدثه الاحتلال في العراق من أضرار فادحة عصفت بكيانه الوطني، ومع ذلك فإن الأمل يحدوني مع غيري في أن تكون هذه محنة عارضة. تشهد على ذلك الأهوال المجتمعية التي خاضها لبنان في ظل حرب أهلية طاحنة دامت حوالى خمسة عشر عاماً، ومع ذلك فقد استرد عافيته بعدها لأن أساس النسيج اللبناني لم يكن هو ذلك الذي عبر عنه جنون الحرب الأهلية، وإنما الرغبة في العيش المشترك على الرغم من كل الخلافات. أشارت أقلام كثيرة إلى أن "شذى" التي فازت مؤخراً بمسابقة "أكاديمية النجوم" قد وحدت الشعب العراقي حولها، والرأي عندي أنها فازت لأن الشعب العراقي كان ولا يزال موحداً، وأن ما تشهده أرضه من أعمال عنف مجنون لا يعبر عن هذا الشعب، وإنما عن واقع بغيض أوجده الاحتلال وسيذهب جفاءً بزواله، وأما الشعب العراقي فسيمكث في الأرض مواصلاً مهمته التاريخية في صنع الحضارة بإذن الله.