هل تذكرون رواندا وما حدث فيها؟ إن كُتب التاريخ لن تتسامح مع سلبية الولايات المتحدة وعجزها عن الفعل عندما تعرض 800 ألف شخص من عرقية "التوتسي" للذبح على أيدي مواطنيهم من "الهوتو" في ربيع 1994 بعد حادث تحطم طائرة كانت تقل رئيسي كل من رواندا وبوروندي. والآن تخيلوا معي وضعاً آخر كانت القرارات والأفعال الأميركية هي السبب الأساسي فيه لسقوط بلد وانحداره إلى هاوية الفوضى والحرب الطائفية. ومع ذلك، وبدلاً من أن تفعل كل ما في وسعها من أجل تجنب كارثة إنسانية، فإنها فضلت أن تنسحب تاركة الحريق مشتعلاً وقولوا لي: ماذا ستقول كتب التاريخ عن ذلك؟ لو نجحت القيادة "الديمقراطية" في الكونجرس في فرض انسحاب متعجل للقوات الأميركية من العراق، ماذا ستسجل كتب التاريخ عن ذلك؟ في الوقت الراهن تشير كل من"نانسي بيلوسي" رئيسة مجلس النواب، و"هاري ريد" زعيم الأغلبية في المجلس، إلى العنف الطائفي المتفاقم بين الشيعة والسُّنة العراقيين باعتباره التبرير الأساسي لسحب القوات الأميركية. ففي رسالة مشتركة وجهاها إلى الرئيس بوش الشهر الماضي يحثانه فيها على عدم استخدام "الفيتو" ضد التشريع المزمع صدوره والذي يتضمن جدولاً زمنياً للانسحاب، ويضمنانه استنتاجاً يصفانه بأنه (حتمي) مؤداه أن القوات الأميركية في العراق، يجب ألا تحاول احتواء "الحرب الأهلية" المندلعة في ذلك البلد. وقد حاول الزعيمان "الديمقراطيان" أن يخففا من لهجة هذه الرسالة بالقول -بحسب ما جاء في بيان صادر عن كل من "بيلوسي" و"ريد"- بأن تحديد موعد مؤكد للانسحاب سيجبر رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي على"السعي لإيجاد الحل السياسي المطلوب لتحقيق الاستقرار في العراق". ولكن هذه الحجة تشبه في تفاؤلها الزائف، ادعاء البيت الأبيض منذ أربع سنوات خلت بأن القوات الأميركية ستُقابل عند دخولها العراق كقوات تحرير. فوفقاً لما جاء بتقرير "مجموعة دراسة العراق" المكونة من أعضاء من الحزبين فإن أي "رحيل أميركي قبل الأوان من العراق، سيؤدي بشكل يكاد يكون مؤكداً إلى تفاقم العنف الطائفي، وإلى المزيد من التدهور في الأوضاع"، كما أن تقييم الاستخبارات الوطنية الذي نشر في يناير يحذر من أن الانسحاب الأميركي المتعجل من العراق، ربما يقود إلى انهيار قوات الأمن العراقية وحدوث "خسائر ضخمة بين المدنيين، وإلى عمليات تهجير قسرية للسكان". رغم أن شعور الأميركيين بالإحباط بسبب سوء إدارة قيادتهم للحرب في العراق أمر مفهوم، ورغم أن تحقيق الاستقرار في بلاد الرافدين يمثل تحدياً رهيباً لتلك القيادة، فإن النصيحة التي يجب علينا أن نوجهها لـ"الديمقراطيين" الذين انتُخبوا في نوفمبر الماضي على وعد بإنهاء الحرب، هي أن يكونوا على حذر. فكُتب التاريخ ستشير إلى أن "الديمقراطيين" الذين ساندوا تدخل بلادهم للمساعدة على إنهاء الحرب الأهلية التي اندلعت في البوسنة وكوسوفو في تسعينيات القرن الماضي، هم أنفسهم "الديمقراطيون" الذين يحبذون الانسحاب من العراق، على الرغم من أن ذلك الانسحاب قد يفاقم من الحرب الأهلية المندلعة فيه، ويؤدي بالتالي إلى تعاظم معاناته الإنسانية -بلغ عدد القتلى من المدنيين منذ أن اندلعت الحرب في ربيع 2003 زهاء 75 ألف شخص حسب تقديرات معهد بروكينجز- وهذا الرقم مرشح للازدياد بمقدار عشرة أضعاف أو أكثر إذا ما اتسع نطاق الاقتتال الدائر في العراق، وتحول إلى حرب أهلية شاملة تشمل كافة أقاليمه. إن مثل هذا الشيء لو حدث، فسيكون إيذاناً باندثار الإرث الذي خلفه "الديمقراطيون" في مجال السياسة الخارجية في عقد التسعينيات من القرن الماضي والذي كان يتمثل في شعار: لا رواندا بعد اليوم. وستشير صفحات التاريخ إلى أنه على رغم أن اللوم الأساسي في كارثة العراق يقع على عاتق البيت الأبيض، فإن أعضاء مجلسي النواب والشيوخ من الحزبين أيضاً قد صوتوا بأغلبيات كاسحة لصالح التفويض بشن الحرب. أما كون أن هناك في الوقت الراهن إجماعاً متزايداً على أن الحرب كانت خطأ، فإن ذلك لا يجوز أن يعفي الولايات المتحدة من مسؤولية خلق فراغ قوة في العراق في حالة الانسحاب، لأن الانسحاب وبصرف النظر عن الكارثة الإنسانية المؤكدة التي سيخلفها، سيترك من دون أدنى شك لطخة سوداء على سمعة الولايات المتحدة، كما سيقلص من دورها في العالم لأجيال قادمة. والداعون لانسحاب سريع من العراق يقولون إن الحرب قد طالت بأكثر مما كان مقدراً لها، وإنها قد كبدت الولايات المتحدة خسائر بشرية ومالية فادحة. وهذا المبرر قد يكون مبرراً سليماً للانسحاب لو نظرنا إليه بشكل مجرد، ولكنه ليس كذلك إذا ما نظرنا إليه في سياق المصالح الأميركية الاستراتيجية الشاملة في المنطقة. فهناك اعتبارات استراتيجية حيوية تدفع الولايات المتحدة إلى الحيلولة دون قيام دولة فاشلة في قلب الشرق الأوسط، ودون مساعدة تنظيم "القاعدة" على إيجاد ملاذ آمن له في غرب العراق، ودون وصول أسعار النفط إلى 100 دولار للبرميل. هل يعني هذا أن تستمر الولايات المتحدة في التضحية إلى ما لا نهاية من أجل قضية خاسرة؟ بالطبع لا.. ولكن من الواجب أيضاً على "الديمقراطيين" ألا يبالغوا في تبسيط احتمالات الانسحاب غير المؤلم، بنفس الكيفية التي بالغ بها البيت الأبيض يوماً ما في تبسيط احتمالات النصر السهل في العراق. والسبب الذي يدعونا لذلك في الوقت الراهن هو ببساطة شديدة أن الرهانات الاستراتيجية والمعنوية في العراق قد غدت مرتفعة للغاية. ستيوارت جوتليب مستشار "ديمقراطي" للسياسة الخارجية يعمل حالياً مديراً لبرنامج دراسات السياسة بجامعة "يل" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"