ليس غريباً في هذا الزمن الرديء ما نشهده من تناسل المحلِّلين والمفكرين و"هتيفة" الفضائيات، يصرخون على الشاشات تارة، ويعولون على صفحات الجرائد تاراتٍ وتارات، يجترّون لغةً مهترئة منقرضة من أرشيف الخطابات القوميّة البائد أو من ترّهات الإسلام السياسي التي بان عوارها. يتميّز أمثال هؤلاء بالقدرة الخارقة على رؤية المشاهد بالمقلوب، ولأنهم لا يرون الواقع إلا في مرآتهم الصدئة فإن المرآة بطبيعتها تحيل اليمين يساراً واليسار يميناً، فتختلط لديهم الأولويات، وتنحرف النتائج تبعاً لانحراف الرؤية. لم يعد محل شكٍ أن إيران وطموحاتها التوسعية في المنطقة باتت تشكل تحديّاً حقيقياً لا لدول الخليج فحسب، بل للدول العربية جمعاء، باعتبار أن أمن الخليج جزءٌ من أمن الدول العربية، هذا الاعتبار الذي يفترض أن ثمّة أمناً قوميّاً عربياً مشتركاً، أدّت دول الخليج واجبها فيه تجاه أشقائها عندما شاركت وبقوّة في حروب دول الطوق مع إسرائيل، وخاصة في حرب 73. كانت إيران قبل الجمهورية الإسلامية وبعدها تشكّل تهديداً لأمن الخليج، لأنها تسعى على الدوام لفرض هيمنتها وبسط نفوذها وسيطرتها عليه، وتلك خطة إيرانية إن كانت غير معلنةٍ في السابق فهي اليوم معلنةٌ وتتناقلها وسائل الأنباء على ألسنة المسؤولين الإيرانيين. لذا فإن الدهشة والاستغراب هما الشعور الأوليّ الذي راودني وأنا أقرأ مقالة الأستاذ فهمي هويدي في صحيفة "الشرق الأوسط" الأربعاء الماضي، والتي حاول فيها بتذاكٍ لا يحسد عليه أن يقلّل من الخطر الإيراني على الدول العربية في مقابل الخطر الإسرائيلي الذي يرى أنه الخطر الحقيقي. بعيداً عن لا منهجية هكذا مقارنة، فإنني لن أنازعه في أن إسرائيل شكّلت خطراً على الدول العربية منذ إنشائها، ولكنني أذكّره بأن المقارنة هنا لا تسعفه، فإسرائيل خطرها واضح ومعلن ومتفقٌ عليه بين الدول والشعوب العربية على حدٍ سواء، ولم يعد لها طموح إلا في التواصل مع العرب وإيجاد صيغة لتمرير شروطها عليهم في خطة سلام أنجز منها الكثير، بينما الخطر الإيراني غير واضح لدى الكثيرين في الدول العربية –والأستاذ أحدهم- واستطاعت إيران أن تخترق الصفّ العربي بزرع عملاء لها بوعي منهم أو بدون وعي. كما أن الخطر الإيراني لديه طموحات توسعية معلنة في الدول العربية، ولديه أرضية طائفية يحاول إنعاشها لتخدم مصالحه وتمنحه موضع قدمٍ للتوسّع، فمن هذا الباب إيران دون شكٍ أخطر من إسرائيل. نعم مشكلة إسرائيل مشكلة قائمة مع الدول العربية لاحتلالها لأراضٍ عربية، غير أن ما يغيب عن الأستاذ هو أن هذه مشكلة في طريقها للحل وهناك مبادرةٌ عربية موحدّة قدمها الملك عبدالله بن عبدالعزيز وتبنتها الجامعة العربية في قمة لبنان، بعكس الوضع مع إيران، فلا خطة عربية موحّدةٌ ولا مبادرة متفق عليها. وإن أراد الأستاذ التفكير بشكلٍ إقليمي ضيّق، فإن إسرائيل لم تعتدِ على دول الخليج بشكل مباشرٍ قط، بينما اعتداءات إيران متوالية ومتتابعة، فمحاولات إيران لنزع المشروعية عن دول الخليج مستمرةٌ منذ قيام الثورة، وسعيها لزعزعة الأمن في عدد من هذه الدول أوضح من أن يدلل عليه، ولا أدري كيف يخفى على شخص يدعي لنفسه المتابعة ما صنعته إيران في البحرين على سبيل المثال، أو في السعودية، سواء بدعمها لجماعات العنف الديني السُّنيّة كتنظيم "القاعدة"، أو بدعمها لتنظيمات مسلّحة تنتمي للطائفة الشيعية كـ"أحزاب الله" في الخليج، والتي خططت عدداً من العمليات داخل دول الخليج، تمكنت هذه الدول من منع كثيرٍ منها، وتمّ تنفيذ بعضها! إن المواطن الخليجي غير قادرٍ على نسيان أعمالٍ تمّت بدعمٍ مباشرٍ من الجمهورية الإسلامية في إيران، واتسمت هذه الأعمال بالوحشية وإظهار العداء الصارخ وغير الإنساني، حتى في أطهر البقاع وأشرف الأزمنة وليست أحداث حج عام 1407هـ عنّا ببعيد. وبعدها بسنوات ما تمّ ضبطه من متفجرات تمكّن الأمن السعودي من ضبطها وحماية الحجيج من شرّها، وما جرى من تفجيرات في نفق المعيصم في منى، والتي أعلنت السلطات الأمنية عن مرتكبيها في حينه وبثت اعترافاتهم في أجهزة الإعلام. ولئن كانت إسرائيل تحتلّ أراضيَ عربيّة –وهذا صحيح- فإن إيران تحتلّ كذلك أراضيَ عربية، وكانت حرب السنوات الثماني مع العراق بسبب هذه الأراضي. وهي لا تكتفي بهذا بل تحتلّ ثلاث جزرٍ إماراتية بالكامل. والفرق بين رؤية كثير من الخليجيين ورؤية الأستاذ فهمي، أننا ندين الاحتلالين ونشارك بقوّةٍ في رفعهما، بينما الأستاذ فهمي وأمثاله يمتلكون رؤيةً بعينٍ عوراء لا ترى إلا جهة واحدة فحسب. مع كلّ هذه الخلفيّة وغيرها، لا أدري كيف يستطيع الأستاذ أن يشرح لنا ما هو الهدف الحقيقي حول التفاني الإيراني في التسلّح بالأسلحة التقليدية التي ينفق عليها كثيرٌ من موارد إيران الاقتصادية، ويجبَرُ المواطنون الإيرانيون على العيش في الفقر لأجل شراء هذه الأسلحة؟ مع الأخذ بالاعتبار أن هذه الأسلحة لا يمكن أن تكون موجّهةً ضد الولايات المتحدة ولا إسرائيل لأنها غير قادرة على الوصول إليهما، خاصةً ونحن لا نفتأ نسمع تصريحات المسؤولين الإيرانيين بضرب المصالح الحيوية للولايات المتحدة في المنطقة، وهذه التصريحات ليس لها إلا معنىً واحد هو ضرب الدول الخليجية التي تمتلك مصالح مشتركة مع الولايات المتحدة. كما لا أدري في هذا السياق، كيف يستطيع الأستاذ فهمي أن يطمئننا تجاه نوايا إيران في امتلاك التقنية النووية التي ستجعلها قاب قوسين أو أدنى من حيازة القنبلة النووية. إن سياسة التسلّح الإيرانية تحمل شعاراً عريضاً، هو الإخلال بموازين القوى مع الدول العربية في المنطقة، بغرض فرض الهيمنة الإقليمية، الأمر الذي لا يمكن لدول المنطقة أن تقبله فضلاً عن أن ترضخ له. ثمّ إن الخطر البيئي يمثّل هاجساً ملحّاً على مواطني دول الخليج، وربما لا يعني الأستاذ في شيء أن يستحضره، لكنه يقلقنا في كلّ لحظةٍ، ذلك أن أية كارثة نووية في إيران المعروفة بزلازلها المتكررة والعنيفة، سيكون الخليج ومواطنوه أوّل المتضررين منها، وما حادثة تشيرنوبل عنّا ببعيد، وحبذا لو أتعب الأستاذ فهمي نفسه قليلاً في القراءة عن تلك الحادثة وويلاتها، ليتفهّم ولو إنسانياً مثل هذه المخاوف. إن ما يجب ألا ينساه الأستاذ هو أن إيران دولة ثورية لم تتخلّ عن ثورتها يوماً، ولم تستبدل تفكير الدولة بتكفير الثورة إلى اليوم، بل هي مستمرة في التفكير الثوري وممعنة فيه من "تصدير الثورة" إلى "عمليات التشييع" في أكثر من بلد عربي وإسلامي، ولا أدري أي ناقوسٍ خطرٍ يحتاجه الأستاذ وأمثاله ليعوا ما يجري من حولنا!! وأخيراً لا أملك وأنا أقرأ كلام الأستاذ وهو يفكّر لإيران أكثر مما تفكّر لنفسها عندما تحدث عن ضعف الدبلوماسية الإيرانية في التواصل مع العرب، لا أملك إلا أن أذكره بقول المتنبي: وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ فعلى أيِّ جانبيك تميلُ.