حين انتقل وجه "المحافظين الجدد" وأحد أدمغتهم المهمة، بول وولفوفيتز قبل نحو عامين من منصبه كمساعد لوزير الدفاع الأميركي إلى رئاسة البنك الدولي، كانت إحدى أولوياته الملحة أن يغير صورته في الأذهان، كصقر من اليمين المسيحي الأميركي وبوصفه مخططاً لحرب العراق واحتلاله، وتالياً أحد رموز إدارة جورج بوش التي تجاوزت الأمم المتحدة نحو شن حرب سرعان ما بدت بلا مبررات! لكن فضيحة الفساد التي هزت البنك الدولي أواخر الأسبوع الماضي، واضطرت مجلس إدارته إلى التحرك للبت قريباً في مصير وولفوفتيز، ودفعت جمعية موظفي البنك، إلى المطالبة بإقالته من منصبه... أضافت ملفاً آخر إلى ملفات تثقل تاريخ بول وولفوفيتز وتجعل ما كان أولوية له قبل عامين، أمراً أبعد منالاً من ذي قبل! وتتمحور الفضيحة حول تورطه في علاقة عاطفية مع إحدى موظفات البنك، قام بمنحها امتيازات مالية وإدارية غير مسبوقة، متلاعباً بالنظام الداخلي للمؤسسة! وقد ورد في تفاصيل القصة، أن وولفوفيتز ما أن أنتخب رئيساً للبنك الدولي في منتصف عام 2005، حتى تدخل لنقل صديقته شاها علي رضا من البنك الدولي، للعمل في وزارة الخارجية الأميركية، وذلك بحجة تفادي تضارب المصالح وفقاً لقوانين البنك التي تمنع ترؤس شخص لفرد من عائلته! وبالفعل انتقلت شاها التي كانت تعمل مسؤولة اتصالات في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في البنك منذ عشرة أعوام، إلى وزارة الخارجية لتعمل هناك مستشارة في مكتب ليزا تشيني ابنة نائب الرئيس الأميركي، وللمساعدة على إنشاء برنامج لنشر الديمقراطية في العالم العربي. لكن وولفوفيتز قرر زيادة كبيرة وسريعة في مرتب شاها؛ فمع إتمام نقلها إلى الخارجية الأميركية نهاية عام 2005 منحها زيادة بلغت 47300 دولار، ثم زيادة ثانية في العام التالي قيمتها 13590 دولاراً، ليرتفع راتبها المعفي من الضرائب إلى 193590 دولاراً في الشهر، أي أكثر من مرتب وزيرة الخارجية الأميركية نفسها بأكثر من 7 آلاف دولار! والمثير في الزيادتين معاً، كونهما تنتهكان السقف الذي تحدده القوانين الداخلية للمؤسسة، كما أن شاها لم تكن تؤدي أي عمل للبنك مقابل راتبها الخيالي. وبطبيعة الحال، فقد ألقت الفضيحة بعض الضوء على العلاقة بين الاثنين، والتي تعود إلى أكثر من عشرة أعوام، لكنها تسربت لأول مرة بعد تولي وولفوفيتز منصب نائب وزير الدفاع عام 2001. وشاها علي رضا ليبية المولد تحمل جوازاً أميركياً، وقد عاشت في تونس والسعودية وبريطانيا، وحصلت على الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة أوكسفورد، وتزوجت في ثمانينيات القرن الماضي من رجل الأعمال "بولنت علي رضا" وانتقلت معه إلى الولايات المتحدة، لكنها انفصلت عنه، كما انفصل أيضاً بول وولفوفيتز عن زوجته. ورغم أن الإعلام الغربي ركز في قضية وولفوفيتز الحالية على مرتب شاها فقط، إلا أن روائح الفساد في مكتب رئيس البنك الدولي تمتد أبعد من ذلك؛ فهناك "كيفين كيلميز" الذي كان يعمل مساعداً شخصياً لوولفوفيتز في البنتاغون ويتقاضى الآن راتباً يصل 240 ألف دولار، وكذلك "روبن كليفلاند" الصديقة الأخرى لوولفوفيتز والتي يبلغ راتبها 250 ألف دولار... وربما تشمل القائمة عدداً آخر من المقربين وأفراد الحاشية! والمفارقة أن وولفوفيتز ظل يؤكد منذ تسلمه منصبه الحالي، على أن الشرط لمواجهة الفقر وتحقيق التنمية في بلدان العالم الثالث، هو محاربة الفساد والقضاء عليه، وقال العام الماضي في إندونيسيا: "الفساد هو أصل الداء الذي يجعل الحكومات لا تعمل"! لكن يتضح الآن أن الفساد ليس حكراً على حكومات الدول النامية، فالمنظمات الدولية الكبرى -كالبنك الدولي- تنتج هي أيضاً فسادها الخاص، كما أن للدول العظمى فسادها الذي تكشفه عقود إعمار العراق ومصير أموال النفط العراقي... أي الملفات التي كان وولفوفيتز نفسه على صلة بها أثناء سنوات عمله الأخيرة في البنتاغون! لقد ووجه مقترح الرئيس الأميركي في مارس 2005 حول تسمية بول وولفوفيتز مرشحاً لخلافة مواطنه جيمس وولفينسون في رئاسة البنك الدولي، بتحفظ واستياء في أنحاء كثيرة من العالم، لكن سرعان ما أذعن الرافضون لرغبة واشنطن، بحكم التوافق القائم منذ 62 عاماً على أن يكون رئيس البنك أميركياً، بينما يتولى رئاسة صندوق النقد الدولي أوروبي! وربما كان مرد ذلك الرفض الأولي، خلفيات وولفوفيتز نفسه وماضيه المهني؛ فهو قيادي في تيار "المحافظين الجدد"، ويعد مهندس السياسة الأحادية للحرب على العراق الذي اعتبره تهديداً لإمدادات البترول ولأمن إسرائيل خاصة. ويقيم وولفوفيتز علاقة قوية مع الدولة العبرية ويعد أحد مؤيديها الأشداء؛ فقد ولد في نيويورك عام 1943 لأب يهودي مهاجر من بولندا، لكنه انتقل مع عائلته إلى فلسطين المحتلة عام 1957 قبل أن يعود إلى أميركا حيث تخرج من جامعة "كورنيل"، ودرس السياسة وعلوم الاقتصاد في جامعة "شيكاغو"، ودرّس في جامعة "ييل" بين عامي 1971 و1978، وعمل في وكالة مراقبة الأسلحة ونزع السلاح، ثم التحق بوزارة الدفاع "البنتاغون"، قبل انتقاله إلى وزارة الخارجية حيث عين مدير إدارة التوقعات وتحديد الأهداف المستقبلية، ثم أصبح مساعد وزير الخارجية لشؤون الباسفيك وشرق آسيا، فسفيراً لبلاده في إندونيسيا بداية من عام 1986. وعند اندلاع حرب الخليج الثانية (1990) كان نائباً لوزير الدفاع ديك تشيني. وخلال 30 عاماً أمضاها وولفوفيتز في البنتاغون، اتخذ لنفسه تخصصاً هو اختراع التهديدات الوهمية ونظرية التدخلات الوقائية. وقد نقل عنه القول "إن أهم درس تعلمته من السياسة الخارجية الأميركية، هو أهمية الزعامة وإدراكي بأنها لا تأخذ بالمحاضرات أو التعبير عن المواقف والمطالب، وإنما يتم تكريسها بالبرهنة للأعداء أنهم سيسحقون ويهزمون، ولأولئك الذين يرفضون السياسة الأميركية أنهم سيندمون على مواقفهم". ولعل تلك الروح هي ما تخوف كثيرون في حينه من أن ينقلها وولفوفيتز إلى منصبه الجديد على رأس مؤسسة تعنى بمعالجة الفقر ومحاربة الفساد، وليس بشراء المواقف وتدمير الذمم... لكن من يغير الطبائع إلا باريها! محمد ولد المنى