يعود العداء بين لندن وطهران إلى سنوات خلت. ففي القرن التاسع عشر، وبسبب نزعة حماية مصالحها الاستعمارية في الهند، أبدت بريطانيا قلقاً واضحاً إزاء النشاط التوسعي الروسي شرقاً. وكانت هاتان الدولتان العظميان قد لعبتا "لعبتهما" على حساب إيران وقتئذ. وبموجب اتفاقية بريطانية- روسية مشتركة، أبرمت في عام 1907، منح كل من طرفي الاتفاقية، نفوذاً على إيران، بحيث يختص النفوذ الروسي بالجزء الشمالي من إيران، بينما يكون لبريطانيا نفوذ على جزئها الجنوبي. وكان قد جرى التفاوض على بنود تلك الاتفاقية، دون أن تكون إيران طرفاً فيها. وبسبب اكتشاف كميات كبيرة من النفط في ما كان يعرف سابقاً ببلاد الرافدين، مصحوباً بقرار البحرية الملكية البريطانية تحويل سفنها الحربية من طاقة الفحم الحجري إلى طاقة النفط، فقد عزز كل ذلك مصالح بريطانيا الاستراتيجية في منطقة الخليج. وما أن بادرت ألمانيا بمهاجمة روسيا في عام 1941، حتى تعاونت الحليفتان -بريطانيا وروسيا- على شن حرب استباقية ضد الهجوم الألماني على حقول النفط الخليجية الممتدة حتى جبال القوقاز. وبالنتيجة فقد غزت الدولتان إيران، وتمكنتا من سحق المقاومة الضعيفة التي اعترضت طريقهما خلال بضعة أيام فحسب. وفي عام 1951، أقدمت حكومة رئيس الوزراء الإيراني الأسبق محمد مصدق على تأميم شركة النفط الإنجليزية- الإيرانية، بسبب أن معظم عائدات النفط تذهب إلى لندن، بدلاً من أن تصب في طهران. وعلى رغم أن تلك الحكومة كانت شرعية وديمقراطية، فإن بريطانيا سارعت إلى تنظيم حملة مقاطعة تجارية دولية على منتجات النفط الإيراني. وفي عام 1953، تضافرت جهود كل من لندن وواشنطن في تنظيم وتنفيذ انقلاب عسكري ضد حكومة محمد مصدق، واستعادت الشاه الإيراني من منفاه ليستأنف الحكم مجدداً في طهران. وعلى رغم أن "الثوريين" الإيرانيين لا يزالون يشيرون إلى كل من الولايات المتحدة الأميركية وحليفتها إسرائيل، بتسميتي "الشيطان الأكبر" و"الشيطان الأصغر" على التوالي، إلا أن نصيب بريطانيا من مثل هذه التسميات، ليس أقل حظاً على الإطلاق. وعليه، فإن من المنطقي النظر إلى أزمة اختطاف الرهائن البحارة البريطانيين التي بدأت في الثالث والعشرين من مارس الماضي، وانتهت مؤخراً على أساس هذه الخلفية التاريخية من النزاع البريطاني الإيراني. وعلى رغم انتهاء هذه الأزمة بعد أسبوعين من التوترات على الجانبين، فإنها تركت آثارها العميقة على الجانب البريطاني بالذات. يذكر أن وزارة الدفاع البريطانية، كانت قد سمحت للضباط البحارة المختطفين، ببيع قصصهم لصحافة "التابلويد"، مقابل مكافآت مالية ضخمة، على افتراض أن تلك القصص حقيقية وتتسم بالمصداقية، ولابد من الكشف عنها كاملة أمام الجمهور. ولكن سرعان ما بدرت ردود فعل رافضة لذلك القرار، من قبل بعض العائلات العسكرية، ومسؤولين عسكريين يعملون في وحدات أخرى تابعة للجيش البريطاني، فضلاً عن احتجاجات بعض المعارضين السياسيين على ذلك القرار. وكانت نتيجة هذه المواقف، إعلان وزير الدفاع البريطاني عن سياسة مغايرة، قضت بعدم إجراء أي لقاءات صحفية إضافية مع البحارة المعنيين. أما من جانب الولايات المتحدة، فقد انهالت الانتقادات على الحكومة البريطانية، خاصة من قبل متشددي واشنطن. ومن رأي هؤلاء أن أزمة البحارة المختطفين، قد أديرت على نحو سيئ من قبل لندن، منذ بدايتها. فما أن شرعت طهران في بث صور المختطفين عبر شاشات تلفزيونها واستغلال محنتهم سياسياً، حتى كان ينبغي للحكومة البريطانية أن تبدي من الحزم ما يلزم إزاءها، وليس أن تنحو منحى تصالحياً توافقياً معها. ولم تطغَ في لحظة من تاريخ بريطانيا الحديث، مشاعر الحنين إلى عهد رئاسة "المرأة الحديدية" مارجريت تاتشر لمجلس الوزراء أكثر مما حدث أثناء تمريغ طهران لأنف بريطانيا في وحل الإهانة الدولية! فلو كانت تاتشر محل بلير اليوم، لما حدث ما حدث لمجد وعز البريطانيين من إذلال وتجريح. غير أن هذه الصورة المخزية لبريطانيا، لا تعني مطلقاً أن طهران هي الظافر الكاسب من هذه الأزمة، كما توهم قادتها.