كان السيناتور الأميركي "جون ماكين" محقاً في تحذيره من تداعيات الفشل في العراق. لكنه أخطأ بالقدر نفسه في القول إن تفادي حدوث هذه التداعيات، يتطلب منا التمسك بذات الاستراتيجية الفاشلة. وبسبب المخاطر الجمة التي نبَّه إليها، فقد أضحى مطلب تغيير المسار الحالي للحرب على العراق، أمراً في غاية الأهمية والحيوية. ووفقاً لما كتبه السيناتور "ماكين" في مقاله المنشور يوم الثامن من أبريل الجاري، فإن من رأيه أن استراتيجية بوش قد بدأت تؤتي أكلها، إلا أن غالبية الأميركيين يجهلون هذه الحقيقة، بسبب تركيز الإعلام على الأخبار السلبية والسيئة وحدها عن العراق. وبالطبع فإن أية تغطية صحفية في العراق، تعد عملاً جريئاً ومقداماً، بالنظر إلى المخاطر التي تواجه حياة الصحفيين وعملهم هناك. والحقيقة -كما لاحظ ماكين- أن الصحفيين يغطون كل التطورات الإيجابية التي تجري على أرض الواقع، بما فيها إنشاء التحالف المعادي لتنظيم "القاعدة" مع الزعماء السُّنة في محافظة الأنبار، وكذلك إنشاء محطات أمنية مشتركة بين القوات الأميركية والعراقية في العاصمة بغداد، والقرار الذي اتخذه الزعيم الشيعي مقتدى الصدر مؤخراً. لكن المشكلة أن كل تطور إيجابي، لابد أن يصحبه حدث آخر سلبي، إما مكافئ له أو أكثر سوءاً، وبذلك تكذب كل الحجج والدعاوى القائلة إننا نحرز تقدماً على أرض الواقع. فمثلاً بينما بدأت معدلات العنف بالانخفاض نسبياً في أنحاء من بغداد وضواحيها، حيث رفعنا عدد القوات المشاركة في العمليات، إلا أن موجة العنف تصاعدت في الحزام المحيط بها في المقابل. وبالنتيجة فقد ارتفع عدد القتلى المدنيين بنسبة 15% خلال شهر أبريل الحالي، قياساً إلى ما كان عليه في شهري مارس وفبراير الماضيين. ولتقريب صورة ما يجري هناك إلى الأذهان، فكلما تمكنا من محاصرة بالون المياه في مكان ما، إذا بها تتضخم وتنفجر في مكان آخر من العراق. ومن الأمثلة على ذلك أيضاً أن مقتدى الصدر قد لا يُرى مطلقاً، إلا أن كلمته تسمع من خلال رص صفوف أتباعه وبعث الرسائل المنتظمة والمثابرة في عدائها للولايات المتحدة الأميركية، بما فيها حث رجاله على مهاجمة قواتنا في جنوبي العراق. ولذلك فإن من المراقبين والخبراء من يعتقد أن "جيش المهدي" على أهبة الاستعداد والتربص للانقضاض على قواتنا، بعد الارتفاع المتوقع لعددهم هناك. ومن بين الأمثلة أيضاً أن إغلاق الممرات والشوارع المؤدية إلى الأسواق، قد ساعد على خفض نسبة العمليات الانتحارية التي تستخدم فيها السيارات المفخخة التي تستهدف المدنيين في الأسواق، غير أنها دفعت الإرهابيين في المقابل، إلى تغيير تكتيكاتهم وأساليبهم الهجومية، بحيث أضحت أكثر تحايلاً ودموية. وربما أصبح الطريق من المطار إلى بغداد أكثر أمناً الآن، إلا أن سماوات هذا الطريق أضحت أكثر خطراً من ذي قبل. وليس أدل على ذلك من فرضنا نحن لحظر الطيران هناك، حتى على طائراتنا العمودية. ثم هناك دليل أكثر وضوحاً على ما حذر منه السيناتور ماكين، ألا وهو ما حدث في مدينة تلعفر. وكان مهندسو استراتيجية بوش الجديدة، قد وصفوا هذه المدينة بأنها "نموذجية" لتطبيق الاستراتيجية الجديدة، بسبب نجاح قوة إضافية مؤلفة من 10 آلاف جندي أميركي وعراقي في تهدئتها وحفظ الأمن فيها خلال عام 2005. وما أن انتهت تلك المهمة، حتى غادرت قواتنا المدينة، على غرار ما تفعله دائماً إثر تهدئتها لأي ضاحية من ضواحي العاصمة بغداد. ولكن الذي تكشف خلال الشهر الحالي، أن المدينة نفسها قد أصبحت مسرحاً لأكثر مشاهد العنف الطائفي دموية وإثارة للرعب. كيف لا وهي المكان الذي حدث فيه تفجير انتحاري باستخدام شاحنة كبيرة استهدفت الجماعات الشيعية، ما أدى في المقابل إلى تنفيذ أعمال انتقامية شبيهة، نفذتها فرق الموت الشيعية، مدعومة بقوات الشرطة العراقية، وذلك بحق المسلمين السُّنة. وبالنتيجة فقد سقط المئات من الضحايا في تلك العمليات الدموية. وبينما كان التعداد السكاني للمدينة يقدر بنحو 200 ألف نسمة، حتى وقت قريب، فقد انحسر الآن إلى حوالى 80 ألف نسمة فقط! وفوق ذلك كله، فإن هنالك مشكلة جوهرية في تقرير "التقدم" الذي تحدث عنه السيناتور ماكين. وتتلخص هذه المشكلة في طبيعة الخيار الذي اتخذناه في العراق حتى هذه اللحظة. وأياً كانت إيجابية الخطوات التكتيكية التي نتخذها، فإنها لا تساوي شيئاً في نهاية الأمر، ما لم تكن تصب في خدمة استراتيجية أوسع مدى لإحراز النصر والنجاح في العراق. لكن من أسف أنه ليس في جعبة الإدارة أي استراتيجية أو تصور للنجاح حتى الآن. وفي أمل الإدارة أن تعطي استراتيجية زيادة عدد القوات هذه، فرصة لحكومة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي للتحرك باتجاه التسوية السياسية للنزاع العراقي، مع العلم بأن هذه التسوية، هي ما تراه مؤسستنا العسكرية، أمراً بالغ الأهمية لتحقيق الاستقرار النهائي هناك. ولكن المعضلة أنه لا تتوفر الثقة داخل الحكومة نفسها، في إمكان التوصل إلى تسوية سياسية كهذه، بقدر عدم ثقة الشعب العراقي نفسه في الحكومة التي تعمل على خدمة مصالحه. كذلك علينا ألا ننسى عجز الحكومة الحالية عن توفير الأمن والخدمات الضرورية للمواطنين. ولهذه الأسباب مجتمعة، فإن احتمال قدرة الحكومة العراقية على التوصل إلى تسوية كهذه، لا يزال ضعيفاً ومحدوداً للغاية. وأمام هذا العجز، فإن السبيل الوحيد هو تغيير مسار سياساتنا الحالية، بحيث نفسح الطريق أمام تحول العراق إلى نظام حكم فيدرالي لامركزي، تتمتع فيه كل مجموعة سكانية كبيرة، بحق الاستقلال الذاتي، وإدارة شؤونها الأمنية والدينية والتعليمية على نحو مستقل عن المجموعات الأخرى. جو بدين ــــــــــــــــــــــــــــــــــ عضو في مجلس الشيوخ الأميركي عن ولاية ديلاور ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"