ماذا لو كانت الجماعات والأحزاب الإسلامية متحكمة بالعالم العربي والإسلامي قبل قرنين، وبنفس قوتها وانتشارها اليوم في مجتمعاتنا؟ ماذا لو كان هؤلاء المتشددون العقائديون العرب والترك والفرس وغيرهم، هم الذين سيحتكون بالحضارة الغربية أول قدومها إلى بلداننا، وهم الذين سيتحكمون بمصير المرأة والرجل، والفكر والسياسة والاقتصاد والتعليم و"الانفتاح الحضاري" على العالم الخارجي... منذ "غزو نابليون"؟ هل كان ثمة أمل، يومذاك، أن تترجم الكتب والقوانين والروايات والأشعار إلى لغاتنا، هل كان يمكن أن نعرف شيئاً عن فكر وفنون الفلاسفة والمفكرين والفنانين؟ هل كان يمكن للمكتبة العربية ومكتبات الدول الإسلامية، أن تمتلئ، بقدر ما تزال فقيرة، بكل ما فيها اليوم من أسفار ومترجمات؟ هل كنا سنسمع كلمتي الدستور والديمقراطية، أو الحرية والمواطنة... أو "مؤسسات المجتمع المدني"؟ ماذا لو كان "الإخوان المسلمون" والجماعات السلفية و"حزب التحرير" و"حزب الله" وجماعات التشدد والتكفير "المجاهدة"، منتشرة قوية متسلطة مهيمنة، في كل مدينة وقرية و"ثغر"؟ كم كان سيتأخر ظهور المجتمع الحديث في مصر وسوريا ولبنان ودول الخليج وبلدان شمال أفريقيا والسودان؟ كيف كان سيتم إدخال المؤسسات الاقتصادية والمصرفية الحديثة والمعاملات المالية المختلفة؟ كيف كان سينمو نظام حر نسبياً للتعليم العام، وكيف كان سيسمح في مدارسه بتعليم اللغات الأجنبية والنظريات العلمية الحديثة، بل وحتى الإشارة إلى كروية الأرض؟ من كان سيسمح بقيام نظام تعليمي جديد يختلف عن المدارس الدينية التقليدية المتوارثة؟ ومن كان يجرؤ على إدخال الفتاة إلى هذه المدارس بجانب الفتى؟ من كان سيسمح للمرأة بدخول مجالات العمل المختلفة التي نراها اليوم، وبأجر مساوٍ أو قريب من أجر الرجال، وأن تظهر الجمعيات النسائية، وأن تقود المرأة السيارة وتسافر عبر بلاد العالم، وتدخل مجالات القانون والسياسة والدبلوماسية؟ ما كان سيكون مصير كتاب الطهطاوي "تخليص الإبريز في تخليص باريس"، حتى لو طُبع في باريس؟! من كان سيجرؤ على طباعة كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة" عام 1899؟ ومن كان سيخرج الرجل من السجن، ومن كان سيحميه من القتل أو يحمي عائلته من التشهير؟ ماذا كان سيحدث لعلي عبدالرازق وكتابه عن "الإسلام وأصول الحكم" ومن كان سيسمح، مجرد سماح، بإقامة المتاحف والمعارض الفنية أو حفلات الموسيقى دون أن يتعرض المكان، إن افتتح، لهجوم كاسح بالفؤوس والهراوات؟ ما كان سيكون شكل الجامعات، وأي الأقسام كان سيُسمح بها، وأي احترام كان للحرية الأكاديمية، وأي تقدير لحرية البحث؟ لعل أكبر وأوسع اللجان الجامعية كانت يومذاك لجنة "أسلمة العلوم والمعارف"! وإذا كانت محاولات هؤلاء في مجال أسلمة العلوم ضعيفة ومفتعلة اليوم، كان سنرى في مقالات قادمة، فلك أن تتصور أفق تفكيرها ومدى سطحيتها... في القرن التاسع عشر! ومع هذا، فلربما أوكل قادة جماعات وأحزاب التشدد إليها يومذاك أداء مهام شبيهة بمهام "محاكم التفتيش"، أو مهام اللجان الأكاديمية في عهد هتلر وستالين! وقد نتساءل اليوم: هل كانت هذه الجماعات ستنجح في إقامة نظام سياسي اقتصادي ناجح، كما نرى مزاعمها في كتبها ومقالاتها التي تهاجم كل التجارب والأحزاب والأيديولوجيات "الدنيوية" و"الوضعية"؟ هل كان التسلط الديني السياسي والعقائدي على سائر مجالات الحياة، سيسمح بقيام دولة عصرية حديثة، أم كان سلطان الأحزاب الدينية وتصارع مراكز القوى والتيارات، وتصادم المذاهب والفرق...هو الواقع الطاغي؟ هل كانت مجتمعات العالم العربي والإسلامي، تحت نفوذ هذه الأحزاب والجماعات لعقود ممتدة، ستكون أكثر تقدماً وأوسع ثقافة وأشد اعتماداً على التقنية الحديثة، أم أنها ربما بالعكس، كانت أكثر فساداً وأقل شفافية وأشد بعداً عن مسار التقدم؟ ألا يفرز النظام الديني، مثل بقية الأنظمة، نماذجه الفاسدة وقنوات الاستغلال والانحراف وسوء الاستفادة والمحاباة الحزبية وغيرها؟ ألا يفرز كل ذلك مراكز القوى التي تحمي المفسدين وتلاحق من يحاول فضحهم؟ أما عرف العالم الإسلامي سوء الإدارة وتنفيع الأقارب وشراء المناصب وغير ذلك عبر القرون؟ ماذا كانت ستفعل سلطات هذه الأحزاب بمعارضيها، وأي جهاز كانت ستنصبه لملاحقتهم وكتم أنفاسهم والتخلص منهم؟ وفوق كل هذا القمع السياسي، وما يرافقه من قيود اجتماعية وثقافية، ربما قامت السلطة بعسكرة المجتمع والمدارس، وفرض التدريب على السلاح والاستعداد لمنازلة الأعداء و"مجاهدة" الكفار، ووضعت هذا كله، في مقدمة أولوياتها، بل ربما أعطت لمصانع السلاح والذخيرة الأفضلية، وأخضعت لها كل إمكانيات العجلة الإنتاجية لإشاعة التقشف و"الاخشوشان"! كيف كانت دولة كبيرة واسعة الإمكانيات وعقائدية ومسلحة وتوسعية كهذه، تحت إدارة هذه الجماعات والأحزاب "الإسلامية"، ستتصرف مع جيرانها، وبخاصة إن تسلحت بالقنابل الذرية والهيدروجينية وغيرها... بل حتى بالأسلحة التقليدية؟ أما كان من المحتمل في دولة كهذه، أن يتولى مفكر مثل سيد قطب مواقع الإرشاد والتوجيه فيها؟ أما كان سيضع كتابه الشهير "معالم في الطريق" موضع التنفيذ، وبخاصة فصل "الجهاد في سبيل الله" من ذلك الكتاب؟ وهو في هذا الفصل بالذات يحث على الجهاد الهجومي ويعتبر الجهاد الدفاعي ضرباً من "الهزيمة الروحية والعقلية"، ويدعونا علناً إلى الاصطدام العسكري بكل دول الكفر... حتى لو سالمت مثل هذه الدول العالم الإسلامي! يقول مثلاً في بعض فقرات ذلك الفصل: "إن المعسكرات المعادية للإسلام قد يجيء عليها زمان تؤثر فيه ألا تهاجم الإسلام، إذا تركها الإسلام تزاول عبودية البشر داخل حدودها الإقليمية، ورضي أن يدعها وشأنها ولم يمد إليها دعوته وإعلانه التحريري العام! ولكن الإسلام لا يهادنها، إلاّ أن تعلن استسلامها لسلطانه في صورة أداء الجزية، ضماناً لفتح أبوابها لدعوته بلا عوائق مادية من السلطات القائمة... وفرق كبير بين تصور الإسلام على هذه الطبيعة، وتصوره قابعاً داخل حدود إقليمية أو عنصرية، لا يحركه إلا خوف الاعتداء! إنه في هذه الصورة الأخيرة يفقد مبرراته الذاتية في الانطلاق"! (طبعة دار الشروق، 1983، ص 87). ومثل هذه الخيالات والأمنيات والتصورات تبدو لنا اليوم غير واقعية وذات خطر شديد على العالم الإسلامي نفسه، تماماً كما تبين لنا الآن، وما زلنا نعاني، من مخططات وسياسات تنظيم "القاعدة" اليوم. ولكن مثل هذا الفكر التوسعي والاصطدامي كان سيكون مرتكز سياسة "الدولة الإسلامية الكبرى"، في ظل سلطة جماعات التشدد الديني. فكيف كانت ردود فعل دول العالم الكبرى، أو معسكرات "الكفر والجاهلية" يا ترى إزاء دولة كهذه؟ لا ندري بالطبع، ولا نعرف ما كان سيكون مصيرنا بعد مجموعة من مغامرات المتشددين الإسلاميين الدولية! ولكن أما كان يمكن أن يحدث العكس تماماً؟ أي أن يتظاهر مثل هذا النظام بالتشدد، بعد أن تهيمن عليه مجموعة واقعية براجماتية تخاف العواقب العسكرية لأفعالها، بينما تحاول في الوقت نفسه التقرب إلى أوروبا والولايات المتحدة و"الاتحاد السوفييتي" وكل القوى المحيطة، بل و"تغريب" وتغيير سياساتها؟ أما كانت مثل هذه القيادة الناضجة ستكتشف مع مرور الوقت، أن كل نظامها غير مؤهل للاستمرار، وأن التشدد والبيروقراطية، والنفاق والخوف، وسلطة الاستخبارات، ورداءة المصنوعات، وتخلف التكنولوجيا، والفجوة بين هذا النظام الحصين والبلدان المتقدمة، يجعله غير صالح لخدمة مصالح المسلمين وإعلاء كلمة وكيان الدين؟ أما كانت دولة الإسلام السياسي ونظامه الخيالي، عرضة يومذاك لمختلف محاولات الإصلاح الناجحة والفاشلة، وللحركات الانفصالية الداخلية وصراع القوميات داخل العالم الإسلامي، وبروز أجيال جديدة من المسلمين ومن الإسلاميين المتمردين على كل هذه الخيالات الحزبية والأوهام، التي فتنهم بها هذا الجيش الكبير من الكتاب والخطباء وقادة الأحزاب على امتداد سنوات طويلة؟ أما نشعر اليوم في العالم الإسلامي، أننا كنا محظوظين حقاً، إذ بدأ احتكاكنا بالعالم الحديث والحضارة الغربية في غياب أحزاب الإسلام السياسي وجماعاته؟ أما كانت تلك فعلاً نعمة كبرى، جديرة بالحمد والشكر؟