طالعتْنا مجلة الشؤون الخارجية الأميركية "فورين أفيرز" الصادرة في مطلع شهر أبريل بمقال افتتاحي لجون فيرسون عنوانه: "لا تستطيع الولايات المتحدة أن تكسَبَ الحربَ الأهلية في العراق"! وهذا أمرٌ بديهيٌّ معروفٌ منذ ما قبل ميلاد المسيح. فالحربُ الأهليةُ لا يكسبُ فيها أحدٌ في الغالب. بيد أنه إذا كان هناك كسْبٌ ما، فهو الذي تحصُدُهُ القوة الداخليةُ الأكثر قدرةً على القتل وإخماد الأنفاس، وإنْ لفترةٍ محدودة. أما الغازي من الخارج -كما في حالة العراق- فهو خاسرٌ بدايةً ونهايةً، بغضِّ النظر عن طول المدة أو قِصَرِها. ولكي لا يطولَ الاستطراد أذكر في هذا المجال الحرب الأهلية اللبنانية، والحرب الأهلية الأسبانية. في الحرب الأهلية اللبنانية خسر الجميع، الأطراف اللبنانية المشاركة، والأطراف الخارجية الداعمة لها أو لإحدى جهات وأطراف الصراع. وفي الحرب الأهلية الأسبانية كسب الجنرال فرانكو واليمين الداخلي الداعم له. لكنْ أين صار ذاك الانتصار؟! لقد فنى فرانكو وسقطت كل البنى التي أقامَها على مدى خمسين عاماً، وكادت الكنيسةُ الكاثوليكية الأسبانية التي تحالفت مع الجنرال أن تفقد الشعبَ الأسبانيَّ وكاثوليكيته الموروثة منذ عشرات القرون! فحتى الدين يتأثر سلْباً إذا تحالفت مؤسستُهُ مع الاستبداد؛ وبخاصةٍ إذا كان استبداداً مؤسَّساً على حرب أهليةٍ سقط فيها مئاتُ ألوف القتلى، وليس انقلاباً عسكرياً وغير دموي. ولستُ أُريدُ من وراء الحديث عن واقع "الحرب الأهلية" بالعراق، العودة إلى إدانة الغزو الأميركي، الذي يستحقُّ كلَّ الإدانة طبعاً. بل المراد معرفة الأسباب والوقائع، لكي نستشرفَ الحلولَ الممكنة التي صارت الآن همَّ العراقيين والعرب، أكثر مما هي همُّ الولايات المتحدة، رغم الظواهر المُناقضة لذلك. والمقصود أنّ الأميركيين هم الذين أثاروا الحرب الأهلية وبالمباشر، ودونما لفٍّ أو دوران. وقد بدأوا ذلك بطريقة دخولهم إلى العراق؛ إذ دخلوا مع الأكراد المسلَّحين، ومع الميليشيات المسلَّحة الآتية من إيران، والتي سلَّموها عملياً السلطة في شتى أجزاء العراق، وبالمباشر أيضاً. ثم إنهم لم يكتفوا بذلك. فقد أجابوا على بدايات المقاومة ضدَّهم بحلّ الجيش والشرطة، وتدمير البنية الإدارية للدولة كلّه باستثناء وزارة النفط، وسلّطوا الميليشيات وقطّاع الطرق على الناس في مناطق معيَّنة للنهب والسلب والقتل والإذلال. وهذا واضحٌ من كتاب بول بريمر الحاكم الأميركي للبلاد خلال العام الأول للغزو. وما لم يقُلْهُ بول بريمر لإخفاء مسؤوليته عن الخراب، قاله "بوب وودوارد" على لسان "غاي غارنر" الذي تولَّى الأمور لأسابيع بعد سقوط بغداد. فغارنر قال لوودوارد إنه عندما علم بقرار حلّ الجيش، وتشريد موظفي الدولة جميعاً، ونية إصدار قانون اجتثاث حزب "البعث"، وذلك عشية مغادرته لبغداد بعد إحلال بريمر محلّه، قال لبريمر ومساعديه إنّ هذا جنون، وسيجلب خراباً كثيراّ. وما اكتفى بذلك بل أخبر كبار المسؤولين بواشنطن بمن فيهم بوش. وقد فهم الرجل وقتَها أن القرار اتُخذ في أعلى المستويات، وأنه لا يمكن التراجُعُ عنه! إنّ قراراتٍ وتصرفاتٍ كهذه، تُشعر بأنه كانت هناك خطةٌ مبيَّتةٌ لتغيير هوية العراق، وليس نظامه السياسي فحسْب. وعندما اتضح للأميركيين في عام 2005 أنهم قد بدأوا يخسرون الحربَ أمام المقاومة، ما أسرعوا في التراجُع. فحتى قانون اجتثاث البعث ما أمكن التراجُعُ عنه حتى الآن، في حين ظهر جلياً للأميركيين ولغيرهم أنّ الشرطة الجديدة تتضمن ميليشيات منظَّمة، وكذلك الأمر مع كثير من كتائب الجيش الطالع. إنّ الذي حدث في عام 2006 أمران بارزان: مقتل الزرقاوي، وبدء الخلاف مع إيران. مقتل الزرقاوي كشف الغطاءَ الوهميَّ الذي كان الزرقاوي الميليشياوي ينشُرُهُ بتصرفاته الشاذّة والمسرحية، بحيث يبدو كأنما المتطرفون الإسلاميون التابعون لـ"القاعدة" هم الذين يثيرون النزاع الطائفي. والخلافُ مع إيران كشف البُنى والتنظيمات التي أقامها الحرس الثوري الإيراني بالعراق تحت سمع الأميركيين وبصرهم. فـ"المحافظون الجدد" الذين كانوا مسيطرين في إدارة بوش الأُولى، أرادوا بصراحةٍ الانتقام من التشدُّد السُّني الذي غزا الولايات المتحدة في سبتمبر عام 2001. وقد وجدوا في إيران وأنصارها الحليفَ الجاهز في أفغانستان ثم في العراق. واختلف الأمر بعض الشيء مع الجهات الشيعية التي وصلت للسلطة بالعراق، عندما بدأ التباينُ الإيراني/ الأميركي. فقد تشبث رجالاتُ "المجلس الأعلى" و"حزب الدعوة" بالأميركيين ورفضوا حتى مطلب جَدْولة انسحابهم؛ في حين بدأ الإيرانيون يستخدمون مقتدى الصدر لإزعاج الأميركيين، ثم لإزعاج المجلس الأعلى بالذات -وهو الفريق الرئيسيُّ المستفيدُ من الوجود الأميركي. وما تزالُ التطورات الناجمة عن انفكاك التساكُن الإيراني/ الأميركي في بداياتها. لكنها في الأمد المنظور ستزداد حِدَّةً بحيث قد تؤدي إلى انقسامٍ شيعيٍ داخليِ ( بين مقتدى الصدر والحكيم) على خلفية الصراع الأميركي/ الإيراني على ملفاتٍ كثيرةٍ داخلَ العراق وخارجه. وقبل أسبوع منعت إيران طائرة نوري المالكي من التحليق فوق أراضيها، كما قالت إنها لن تحضر اجتماع وزراء خارجية دُوَل الجوار العراقي الذي اعتزمت الحكومة العراقية إقامته بشرم الشيخ بمصر. وكنتُ قد حسبْتُ أنّ إيران في سياق صراعها المتصاعد مع الولايات المتحدة، لن تستخدمَ العراق؛ لأنّ ذلك يؤدي للإضرار بشيعة العراق الذين أوصلتهم الولاياتُ المتحدة للسلطة، وما يزالون بحاجةٍ ماسّةٍ إلى دعمها ومساعدتها. لكن قد لا تكون إيران هي التي بدأت التجاذُب داخل العراق؛ بل الإدارة الأميركية، لجرِّ إيران إلى مُنازلةٍ على أرضٍ تسيطرُ عليها هي. والدليلُ على ذلك أنّ إيران أشَّرتْ بلبنان وليس بالعراق لتصعيد النزاع مع الولايات المتحدة من خلال حرب تموز التي أنشبها "حزب الله" ضدّ إسرائيل. وعلى أي حال، وكما سبق القول؛ فإنّ التطورات ما تزالُ في بداياتها، والأيامُ حُبْلى، وستلدُ الكارثةُ العراقية المزيدَ من المسوخ الشوهاء في الشهور القادمة. فالولاياتُ المتحدة ما ارتكبت جريمتي الغزو والحرب الأهلية فقط؛ بل أضافت إلى مآثرها: الفيدرالية الطائفية والإثنية، والوعود الكبرى التي أعطتها للأكراد. وهاهم الأكراد قد بدأوا -كالعادة- يتنازعون مع تركيا، وقد يصطدمون بإيران؛ وهذا إن لم يصطدموا بإدارة الرئيس بوش أيضاً! ماذا يستطيع العراقيون، وماذا يستطيع العربُ أن يفعلوا لإخراج هذا البلد العربي من المأزق؟ كان مؤتمر القمة العربي بالرياض قد دعم حكومة المالكي (رغم المآخذ الكثيرة عليها)، كما دعم الخطة الجديدة لإحلال الأمن ببغداد. وبوسع العرب والأتراك في مؤتمر شرم الشيخ أن يؤكّدوا على دعم المالكي بشروطٍ محدَّدة. ويستطيع العربُ -إذا اطمأنّوا- أن يشجعوا السُّنة على إخراج "القاعدة" وأنصارها من مناطقهم، وأن يحثوهم على المزيد من المشاركة في مؤسسات الدولة الجديدة. كما أنّ بوسعهم جلب الأتراك والأكراد إلى محادثاتٍ مثمرة، من أجل حكمٍ ذاتيٍ واسع متحققٍ الآن. وهذا يعني أنّ العلاقات بين المناطق ذات الكثرة الشيعية، والأخرى ذات الكثرة السُّنية، لا ينبغي أن تكون فيدرالية؛ بل ذات نزوعٍ لا مركزي لا يثير الصراعات على التخوم والثروات. بيد أنّ العراقَ الجديدَ لا يستطيع البقاء وبلوغَ السلام بين عناصره دونما مباركةٍ إيرانية. وقد كسبت إيران كثيراً من وراء سقوط نظام صدَّام حسين. ولاشكَّ أنّ الكثرة الشيعية بالعراق تستطيع أن تكون أكثر بشاشةً مع إيران، دون أن تكونَ تابعةً لها. على أنّ هذه الأفكار كلَّها لن تجد من يهتمُّ بتفعيلها ما دام الأميركيون بالعراق، وما داموا متشاجرين مع إيران. كما أنّ الطموحات الكبيرة التي بثّها الأميركيون في نفوس الأكراد، وعلاقات الأحزاب الكردية الوثيقة بإسرائيل، كلُّ ذلك قد يدفع هؤلاء للقيام بمغامراتٍ انفصالية قد تشجّع عليها إيران في حالة عدم رضاها عن التطورات الجديدة بالبلاد. ويُضافُ لذلك ملفّات القتل والتهجير التي نشأت بين الشيعة والسُّنة، والتي ولَّدت أحقاداً قد يطولُ الأَمَدُ دون خمودها. ما كان أغنانا نحن العرب عن هذه الكارثة، وعن التوترات السُّنية/ الشيعية، وعن هدر دماء وأمن وكرامة واستقرار الشعب العراقي. بيد أنّ ما حصل لا يمكن مسْحُهُ بشطبة قلم. كما لا يمكنُ مسحُ "غزوة " ابن لادن للولايات المتحدة: "والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون".